د.فوزية أبو خالد
وقفة أولى
بمناسبة اليوم العالمي للمرأة أطرح في هذا المقال وقفتين. في الأولى لا بد أن أقف وقفة تذكير ودقيقة صمت إن صح التعبير بالسبب الموجع الذي جعل من يوم الثامن من مارس يومًا عالميًا معتمدًا للمرأة من قبل الأمم المتحدة ومن قبل الدول الأعضاء فيها ومن قبل أغلبية نساء الأرض ورجاله الحالمين بالعدل. وعلى الرغم من أن هذا اليوم يوم للتوعية بحقوق المرأة كإِنسانة كاملة الإِنسانية وللتذكير بما وقع عليها من ظلم تاريخي وللمطالبة بمزيد من عوامل تمكين النساء، فقد أصبح في بعض جوانبه احتفائية بعضها سلعي وبعضها معنوي بما أنجزته المرأة وما أنجز لصالح حقوقها الحياتية في العلم والعمل والسياسة والثقافة، إلا أنه في الحالين نادرًا ما يجري التطرق لسبب انطلاقة الشرارة الأولى لهذا اليوم. «فيوم ثمانية مارس هو ذكرى للمجزرة التي حدثت 8 - 3 - 1908 بأمريكا التي ارتكبها أحد أصحاب مصانع النسيج بإزهاق أرواح 129 امرأة من العاملات بالمصنع بحرق المصنع وحرقهن أحياء داخله لا لشيء إلا لقيامهن بالإضراب عن العمل والمطالبة برفع أجورهن البخسة».
وهذا الحادث اللا إِنساني المروع يؤكد أن الطريق إلى الأهداف النبيلة كمثال حقوق النساء هنا لم يكن يوم ممهدًا إلا بعرق ودماء الشرفاء ولم يكن آهلاً إلا بأطيافهم متلبسة بأجنحة الصبر وريش الأمل.
****
وقفة ثانية
الوقفة الثانية التي أريد أن أطرحها هنا فيما يتعلق بمناسبة يوم المرأة العالمي هي فرضية قمت بمتابعتها نظريًا وبدراستها بتجربة اعتمدت على الملاحظة بالمعايشة والقراءة مع توظيف الكثير من الخيال الشخصي والاجتماعي.
من الملاحظ أنه غالبًا مما ينصب اهتمام الدراسات الاجتماعية والسياسية والنسوية في موضوع تمكين المرأة على الاهتمام بتفعيل قواها الجسدية والعقلية التي طالما جرى تبخيسها لتصبح أسلحة أكثر مضاء في كفاح النساء لتحقيق شروط اجتماعية واقتصادية وسياسية وقيمية أكثر إنصافًا لها وأقدر على تحقيق العدالة الاجتماعية للمجتمع ككل. فيصبح جزءًا من التمكين بحسب ذلك التنظير هو رد الاعتبار لقدرة المرأة الجسدية على العمل وقدرة المرأة العقلية على التفكير وعلى التعلم وعلى الإبداع الأدبي والعلمي.
وفي هذا السياق تأتي فرضيتي وفيها أريد أن أجادل بأن هناك مصدرًا لا يقل ثراءً وقد يشكل مصبًا إضافيًا من مصادر تفعيل قدرات المرأة لتمكينها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، وهذا المصدر هو الروح المعنوية للمرأة التي لو جرى العمل على تفعيلها مثلما يجري العمل على تفعيل القوى الجسدية والفكرية للمرأة بهدف التمكين فإنها قد تشكل نقلة نوعية في مجهود التمكين. ولا أطرح هذا الرأي في إطار علم النفس، بل أطرحه في إطار الدراسات الاجتماعية والسياسية باعتبار أن الروح المعنوية هي منتج اجتماعي سياسي وليست حالة نفسية، غالبًا ما يكون لها دور حاسم في حسابات الربح والخسارة، النصر أو الهزيمة الاحجام أو الإقدام.
ومع أننا كبشر نساءً ورجالاً لا نسطيع أن نعمل بأجساد خائرة أو بأجساد نظن أنها ضعيفة ولا تطيق العمل، كما أننا لا نسطيع التفكير بعقول سقيمة أو يظن أنها ناقصة، فإنه من الصعب أن يتحقق التمكين بأرواح مكسورة الأجنحة أو بأرواح معنوية معقوفة أو»مدقومة» كما نقول بلهجتنا السعودية.
ويمكن في هذه العجالة أن أعرض عدة أمثلة لعبت فيها الروح المعنوية للنساء تحديدًا دورًا إيجابيًا في التمكين ولكن ليس أي تمكين، بل تمكين كان له قدرة تغير جذرية. فمريم وهاجر وبلقيس وزنوبيا وماوية وخديجة بنت خويلد وأسماء بنت أبو بكر الصديق وأم سلمة والخنساء ونسيبة الأنصارية ورفيدة الأسلمية وفاطمة الفهرية وولادة أمثلة شاهقة عبر التاريخ على روح معنوية مرتفعة استطاعت أن تملك زمام قضاياها الشخصية وزمام قضايا مجتمعاتها. ومن العصر الحديث نجد أمثلة لدور الروح المعنوية للنساء في التمكين من هيلن كيلر لماري كوري، فلورانس نيتنجيل، روزا باركس عدا عدد كبير ممن رصدتهن أميلي نصر الله في ستة أجزاء من كتابها رائدات من الشرق والغرب التي وجدت فيه أن القاسم المشترك الأعظم في تمكين النساء هو الروح المعنوية العالية التي استطاعت أن تتجاوز بهن بعض ما يسمى بالقيم والمثالية والعادات والتقاليد والسلطات الأبوية والسلطة السياسية التي عادة ما تحاول أن تنزل بالروح المعنوية للنساء للحضيض.
إن لدى المرأة عمومًا والمرأة العربية والسعودية تحديدًا إرثًا ضخمًا من قيم إضعاف الروح المعنوية للنساء سواء على مستوى الحكايات الشعبية أو على مستوى الأمثال أو على مستوى النظرة التشكيكية للمرأة على مستوى علاقة المرأة بذاتها أو علاقة المرأة بالمرأة أو داخل شبكة العلاقات الاجتماعية الأبوية وهذا ما أجادل بأنه قد يكون أحد معوقات تمكين المرأة فيما أجادل أيضا بأن لدى المرأة عمومًا والمرأة العربية والسعودية تحديدًا إرثًا ضخمًا وثروة جارية من القدرة على التحمل بأنواعه الجسدي والأدبي والقدرة على الصبر والقدرة على الغزل بظلف الذئب وهذا مخزون روحي هائل لا يزل غفلاً في علاقته بمحاولات تمكين المرأة وربما يعود بعض ذلك لإنصباب الاهتمام السياسي والاجتماعي في أطروحة التمكين على النساء المتصدرات للواجهات الإعلامية في السوشل ميديا وغيرها من نوافذ الدعاية والإعلام أكثر من إنشغاله على تمكين المرأة رأسيًا وصولاً لنساء القاع وأفقيًا على الامتدادات الصحراوية والريفية وليس الحضرية وحسب. وفي هذا أجادل أن المرأة التي تنام ساعات أقل ولكنها تحلم أكثر وتتعرض لضغوط جسدية ونفسية أكثر ولكنها الأقل مراجعة لطبيب أو المطالبة بيوم راحة، وتخوض آلام الحمل والوحم وأوجاع المخاض القاتلة ثم عن عمد وإصرار تنسي نفسها تلك الأوجاع، وهي مع كل ذلك أول من يصحو في البيت وآخر من ينام وأول من يدخل العمل وآخر من يخرج لا بد أنها تملك طاقة روحية فوق العادة وبالتالي فلا بد من العمل على تفعيل هذه الروح المعنوية وتحريضها لتصبح جزءًا من تحدي تمكين النساء. وعلينا أن نتذكر أن القيد قد يقيد الجسد إلا أن لا قيد يقيد روح حرة تهوى التحليق وهذه روح النساء التي نراهن على قدرتها لكتابة مستقبل أجمل للنساء وللرجال وللوطن.
*********
وقفة ليست أخيرة
ولا يفوتني أن أبارك لسمو الأميرة ريما بنت بندر سفيرة للمملكة العربية السعودية بواشنطن في مهمة ليست سهلة ولكن تستطيع أن تكون لها امرأة من بلدي. وبهذا المناسبة العزيزة لا بد أن أساررها بأحلاااااام نساء وطنها التي وإن لم تسمعها منهن امرأة فهي لا بد تحدسها بتفكيرها المستنير وبما تملكه من ضمير.