محمد آل الشيخ
الإعلام بشكل عام، والصحافة الورقية بشكل خاص، تحرص الدول على أن تكون مرآة تعكس ليس فقط الحالة الإعلامية في الدولة، وإنما الثقافية والأدبية أيضاً. والصحف الورقية تمر هذه الأيام بضائقة مالية ملحة، وخطيرة في الوقت ذاته، تنذر بانهيارها، نظراً لعزوف المُعلن عن الإعلان في صفحاتها، ومن المعروف أن الإعلان، بالدرجة الأولى، إضافة إلى الاشتراكات والبيع في نقاط التوزيع، هي المصادر التي منها تتمول الصحيفة.
لتلك الأسباب تحرص جميع الدول، بما فيها الدول المتقدمة، على إعانة هذه الصحف (وحمايتها من الإفلاس)، إما بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، للحفاظ عليها كواجهة إعلامية وثقافية وأدبية للبلاد التي تصدر منها وكذلك عنها، ويشارك فيها إعلاميوها ومثقفوها.
خذ مثلاً وليس حصراً فرنسا، فالفرانكفونية هويتها التي تميز ثقافتها وإعلامها، وتعتبر الصحافة بمثابة المرآة التي تعكس هذه الثقافة، أو قل الهوية، فهي من أهم الدول التي تقف بقوة خلف صحافتها فكما تقول المؤشرات؛ ففي 13 ابريل عام 2012 صدر مرسوم من مجلس الوزراء يقضي بالتصريح عن المساعدات التي تقدمها وزارة الثقافة للمؤسسات الإعلامية الفرنسية وينظم هذا المرسوم شروط وآلية صرفها؛ (FSDP) كما أسست صندوقاً آخر في عام 2016 باسم (FSEIP) يتوليان هذه المهمة، التي يوليها الفرنسيون جل اهتمامهم.
بريطانيا أيضاً تفرض على الهيئات والمؤسسات الحكومية إذا رغبت في الإعلان لإشهار قانوناً أو إجراء أو لفت نظر أن تعلن حصراً في صحافتها، وتتقاضى الصحف على هذه الإعلانات عائداً جيداً، هذا فضلاً عن الإعفاءات الضرائبية على اعتبار أن هذه المؤسسات تقدم خدمات مدنية للمواطنين والمقيمين في بريطانيا، وأن إجراءً كهذا يصب في خانة النفع العام.
وفي كندا تدفع حكومتها للصحف إعانة مالية مباشرة، وكذلك إعفاءات ضريبية مختلفة لإبقائها على قيد الحياة أولاً، وثانياً لحمايتها من الاستغلال المالي من قبل التجار وأصحاب رؤوس الأموال، وتوجيه سياساتها التحريرية بما يخدم مصالح هؤلاء على حساب مصالح المواطنين الآخرين.
أما في الولايات المتحدة، فهناك إعانات حكومية قد تصل إلى أكثر من ملياري دولار سنوياً، منها غير مباشرة كخصم مقدم من الحكومة الفيدرالية بحوالي ثلاثمائة مليون دولار، كما تنشر الحكومة الفيدرالية الإعلانلات الحكومية في الصحف والتي تقدر بما يزيد على مليار دولار سنوياً، أضف إلى ذلك أن هناك إعفاءات ضريبية للصحف تقدر بـ900 مليون دولار. وكذلك الحكومة الفدرالية السويسرية فهي الأخرى تدعم صحفها بما يتجاوز خمسين مليون فرنك سويسري سنوياً، والأمر نفسه ينطبق على استراليا والسويد والدنمارك.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن دول الخليج تدعم صحفها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولا يمكن أن يسمحوا لصحافتهم الورقية أن تنتهي وتتلاشى وهي الواجهة الإعلامية والثقافية (الأرصن والأرقى) في هذا (الحراج) الإلكتروني الفوضوي والعبثي وغير المسؤول.. ولإقناع دافعي الضرائب في الغرب بفكرة الدعم، سواء المباشرة منها كالإعانات المباشرة، أو غير المباشرة بالفرض على المنشآت ذات الصبغة الرسمية هذه الاعلانات، لأن إجراء كهذا في منظورهم هو واجب وطني، فهي التي تعكس للمسؤول والمواطن في الوقت ذاته المشاكل المحلية، ليتم تقويمها، كما أنها تعكس الصورة الثقافية والأدبية في البلاد لمن أراد رصد المستوى الإعلامي والثقافي لتلك الدولة.
وغني عن القول إن الصحافة الورقية تنافسها بشراسة الصحافة الإلكترونية، بشكل جذب لهذه الصحافة الإلكترونية (الإعلان)، الذي هو المصدر الأول والأهم الذي تعتمد عليه الصحف، الأمر الذي جعلها تمر بأزمة حقيقية، قد تنتهي بها إلى الانهيار، أو الاكتفاء بموقع إلكتروني، وبالتالي التوقف عن إصدار الصحيفة ورقياً.
وهنا لا بد من القول إن التماهي مع العصر ووسائله الجديدة ضرورة لا يمكن تجاوزها، لكن هذا التماهي تترتب عليه تكاليف كبيرة، ويتطلب مبالغ ضخمة، كي تؤسس موقعاً إلكترونياً قوياً ورصيناً، تستطيع من خلاله أن يكون لك صوت بارز فيه. لكن وضع الصحف المالي اليوم لا يُمكنها القيام بهذا الطموح بالشكل والمضمون الذي يجعل الصحف الورقية تواكب هذا التحدي. وهناك كثير من الأفكار المختلفة والمتطورة في هذا المجال الذي يمكن أن تتميز بها الصحف الورقية الحالية لو أرادت أن تطرق الصحافة الإلكترونية.
هذه الأفكار تحتاج في البداية تمويلاً مالياً، ولعدة سنوات، حتى تستطيع هذه الصحيفة أن تقف على قدميها، ويشتد عودها.
كما يجب ألا نغفل ونحن هنا نتحدث عن المؤسسات الصحفية التي تصدر عنها الصحف الورقية عن آلاف الكوادر التي تعمل في هذه الصحف، سواء من محررين ومراسلين وكتاب، بل يمكن القول إن كثيراً من هؤلاء يعتمدون على الصحف في مداخيلهم اعتماداً كاملاً، ما يجعل نهاية هذه الصحف نهاية لهم، وانضمامهم إلى طابور العاطلين، وأغلبهم ما زالوا في طور الشباب.
وخادم الحرمين الشريفين- حفظه الله- هو من كان يهتم بالصحافة والصحفيين منذ تسنمه لإمارة الرياض وإلى اليوم، فقد كان بالفعل راعي الصحافة، والجهة الأهم التي يلجأ إليها الصحافيون في مكتبه آنذاك في إمارة الرياض، ولولا أنه يعي تماماً أبعاد وتأثير الصحافة والعاملين فيها، لما تميز من بين أبناء عبدالعزيز منذ نعومة أظفاره بهذه الميزة التي هي حجر الأساس في ما يسمونه (القوة الناعمة). هذه هي مشكلة صحافتنا بالمختصر المفيد، مدعمة بالأمثلة والشواهد التي استقيتها من أعظم دول العالم، نرفعها إلى مقام مليكنا المفدى وولي عهده الأمين أميرنا الأمل محمد بن سلمان وكذلك إلى وزير الإعلام الأستاذ تركي الشبانة ولاسيما وهو من بداياته الأولى كما تنص سيرته العملية بدأ في أحضان الإعلام ومؤسساته؛ فهو الخبير الذي يعرف تماماً أبعاد ما أقول.
إلى اللقاء