د. جاسر الحربش
تعد المؤسسات الصحفية العريقة في القطاع الخاص جزءًا أصيلاً من المحصلة الحضارية الراصدة للحراك السياسي والثقافي والاقتصادي والفني والرياضي، لخدمة الدول والمجتمعات. بهذا المفهوم تلقى المؤسسات الصحفية العريقة في الدول العريقة نفس التقدير الاعتباري الذي تتمتع به الأكاديميات والمكتبات الموسوعية والمتاحف والمجالس البلدية، إلى آخر الواجهات الحضارية. في الكثير أو أغلب الأحيان تكون الصحافة هي لسان الدول والحكومات المتحدثة به إلى الداخل والخارج، وهي في نفس الوقت عين المجتمعات التي تتابع بها ما تفعله المؤسسات الرسمية ومدى تطابق ما تفعله السلطات التنفيذية مع ما تعد به الحكومات، وإلى أي مدى ينتشر خلل التطبيق إن وجد.
هذه المقدمة في حالة موافقة القارئ عليها كحقيقة تفتح الباب للسؤال التالي: هل من واجبات الدول المستقرة، ممثلة بحكوماتها المتتابعة، المحافظة على المؤسسات الصحفية العريقة كراصد ومكون أساسي للحراك الاجتماعي بكامله، أم أن الأمر متروك لقدرة المؤسسة على البقاء وكفي؟ لنعكس الاتجاه في السؤال: هل يحق للدول ممثلة بحكوماتها التخلي عن المؤسسات الصحفية العريقة وتركها تغرق عند مرورها بأزمات مالية خانقة مثلها مثل أي مشروع تجاري عادي؟ الجواب على السؤال الأول يحدد جواب الثاني، لأن واقع الأحوال يعطي الدول والحكومات الحق في محاسبة المؤسسات الصحفية على أخطائها مع حق الاستفادة من إيجابياتها أثناء تمتعها بالعافية والاستقلال المادي. بناءً عليه لماذا يكون للدول الحق في التخلي عن المؤسسات الصحفية عندما تكون على سرير الإنعاش بسبب سوء التغذية؟
من يعتقد أن حكومات الولايات المتحدة الأمريكية تستطيع التخلي عن الواشنطون بوست ونيويورك تايمز والكرستيان ساينس مونيتور، كأمثلة، مخطئ في اعتقاده لأن هذه المؤسسات الصحفية أصبحت جزءًا مندمجًا في الحامض النووي للحياة الأمريكية. الواقع المدعم بالوثائق يثبت أن الدعم الحكومي الأمريكي لمؤسساته الصحفية مستمر عن طريق الإعلانات الحكومية في المطبوعات الصحفية ومن خلال تغطية المقابلات الرسمية والمؤتمرات مدفوعة التكاليف، علاوة على التبرعات العلنية المفتوحة من القطاع الخاص ومن القراء وهي مبالغ لا يستهان بها. نفس الأوضاع موجودة في ألمانيا وفرنسا واليابان وروسيا والصين، وأتوقع كذلك في إيطاليا وإسبانيا، لكن الوضع ربما يختلف في بعض دول أمريكا اللاتينية والإفريقية والعربية، لأن درجة الالتزام في تلك الدول غير كاف تجاه شؤون كثيرة.
أختتم هذا المقال بتوجيه تساؤلات أعتقد أنها تستحق التفكير:
أولاً: عندما تختفي المؤسسات الصحفية الخاصة ما هو المتبقي المتوافر من الجهات الأكثر تأثيرًا ومصداقية لنشر الأخبار الوطنية والتقارير عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية، ولمقارعة الآراء مع الإعلام الأجنبي بحوارات علنية وموضوعية، وهل أدغال الصحافة الشبكية المتفلتة من الرقابة هي البديل المناسب؟.
ثانيًا: أجيال المواهب الناشئة الشابة، في الكتابة السياسية والتحليل الاقتصادي والشعر والفنون ومهارات نقل الحوارات الموسعة للمؤتمرات واللقاءات العالمية، ما هي الجهات التي تستطيع توفير منصات الانطلاق لهذه المواهب لتصل إلى مراكز الاستفادة المؤسساتية والاجتماعية؟
ثالثًا: ألا تستطيع دولة كريمة عريقة مثل السعودية، بالتعاون الوطني المتوجب مع القطاع الخاص المحافظة على مكون عريق واكب مسيرتها السياسية والتنموية والاجتماعية منذ بدايات الدولة السعودية الثالثة؟.
أجل إنها تستطيع وهي أول من يهمه بقاء كل المؤسسات العريقة في مشهدها التنموي المتواصل.