د.عبدالله بن موسى الطاير
وأنا أشاهد جموعاً من الرجال والنساء والأطفال يغادرون معاقل داعش في الباغوز، أتساءل: كيف سمحت داعش لهؤلاء أن يخرجوا سالمين وهي التي عودتنا جز الرؤوس وإهدار كرامة الإنسان. هذا التنظيم الذي أرعب العالم، وقتل من العرب السنة 322 شخصاً في يوم واحد من نوفمبر 2014م. إنه العام الذي أعلنت فيه داعش عن نفسها وأبانت عن توحشها منذ أسسها أبو أيوب المصري الذي خلف الزرقاوي عام 2006م. فهل أصيبت داعش بداء الإنسانية في آخر عمرها؟
كتبت ذات مرة مع بدايات داعش أنها تنصب خيمة كبيرة كأنها تحمي العرب السنَّة من قيظ الصيف وزمهرير الشتاء، وقد كتبتْ عليها من الخارج: «هنا عرب سنَّة فاقتلوهم». ولن أسهب في تعداد ما لحق بالعرب السنة من أضرار منذ ولادة داعش، وإنما أطرح السؤال لمن يريد أن يتفكر في الرابحين والخاسرين من هذا التنظيم.
يخيل لي أن هناك من يسعى الآن على أنْسَنةِ داعش بتصوير إطلاقها الأطفال والنساء والعجزة، وبعض المقاتلين فيها والسماح لهم بالحديث للإعلام، وليس منهم من سمعته يذكر داعش بسوء. غريب ما يحدث، ولكنه في حال هذا التنظيم لا يضيف الكثير إلى الغموض الذي صاحبه منذ النشأة.
لم نعد نسأل عن بدايات داعش وكيف أطلقت أمريكا من سجونها في العراق أبو بكر البغدادي، ولا كيف نمت وتضخمت وكوَّنت لها وطناً يمتد من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى ضواحي بغداد، ولم نعد ندقق في الطرق التي كانت تبيع بها النفط، ولا الطرق التي اشترت بها تلك السيارات والآليات العسكرية التي وصلت قيمتها إلى نحو ملياري دولار، كل ذلك لم نعد نتذكره كثيراً. لكن كيف لنا أن نتجاهل مشاهد ذبح الرهائن الغربيين، واليابانيين، والسفير المصري في بغداد، وحرق الطيار الأردني، والمسيحيين المصريين الذين جزت رؤوسهم في ليبيا، وتلك الجرائم التي هزت الوجدان الإنساني وارتبط توحشها بالمسلمين عموماً دون تخصيص؟ لقد صبغت تلك المآسي عام 2014م بلون الدم وأنطقته بلغة الحزن والرعب، فهل حان الوقت لنقلب الصفحة، وندفن البئر على ما فيه؟
يُقال إن داعش تلفظ أنفاسها الأخيرة، وبذلك فهي في أشد حالات الدفاع عن النفس وكانت تستطيع استبقاء المفرج عنهم لتستخدمهم متاريس في وجه قوات التحالف، ولكنها لم تفعل. وكان يمكن مقايضتهم بخروج آمن لمقاتليها كما فعلت هي مراراً وفعلت الجماعات المشابهة لها ولكنها لم تفعل. وهو ما يُضاف إلى الأسئلة المحيّرة عن تشكّل داعش في البداية، وحياتها وتمددها في العراق وسوريا المحاطتين بقوى إقليمية كبرى، وفي مساحة لا تغيب عنها عيون أمريكا وأوربا والروس.
هل نعود إلى الفرضيات التقليدية التآمرية في تفسير هذه الظاهرة، وبذلك ننتظر مصيراً لخليفتها يشبه تماماً مصير خليفة القاعدة أسامة بن لادن؟ قتل في الظلام، ودفن في أعماق البحار؟! أم أن مصير البغدادي هذه المرة سيكون أكثر غموضاً عن سابقه؟ وإذا كانت داعش فعلاً ستنتهي في العراق والشام، فهل سيتم استنباتها بنسخة أكثر توحشاً في مكان آخر من العالم الإسلامي أم أنها خاتمة المطاف وتتبعها تسويات لمشاكل المنطقة لتكون داعش ومن قبلها القاعدة قد مهدتا الطريق إلى تقبل الحلول الصعبة في القضايا المصيرية؟ هل دحر داعش هو بداية لحرب تخوضها الدول هذه المرة، وينتج عنها بروز قوى جديدة وأقطاب عالمية تحقق التوازن مع الولايات المتحدة الأمريكية؟ أم أن نهاية داعش هي بداية لدولة كردية، وأخرى عربية شيعية وثالثة عربية سنية وخامسة علوية؟ من حقنا طرح الأسئلة طالما أننا لا نملك الإجابات، وليس عبء طرحها إذا كان الوقت وحده كفيلاً بالإجابة عنها.
ربما من حسن حظ الباحثين عن الإجابات المستعصية أن الرئيس دونالد ترمب لم يخرج من النخبة السياسية التقليدية في واشنطن، ولذلك فإنه يتصرف منعتقاً من هيمنة المؤسسات التي تحتكر المعلومات وتحيك المؤامرات وتدير المشاهد من خلف الكواليس. لعلنا نتذكر تصريحاته إبان حملته الانتخابية في أغسطس عام 2016م عندما قال إن الرئيس بارك أوباما هو «مؤسس تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام» متهماً هيلاري كلينتون بالمشاركة في التأسيس. قد لا يكون هذا الاتهام صحيحاً على ظاهره، ولكنه يفضح ما تخفي الدوائر المغلقة.