عبدالعزيز السماري
ألَّف ابن رشد ثلاثة كتب ضد الغزالي لتوضيح فكرة أهمية مسار تطور الحكمة مع النقل؛ وذلك انتصارًا للعقل من أجل فهم أكثر للحقائق العلمية والشرعية، وفى النهاية انتصر الغزالي، وأصبح ابن رشد على هامش الحضارة الإسلامية، وكان بداية النهاية لحضارة، كانت بحق أول شروق لشمس الحضارة الإنسانية في المسار الصحيح؛ وذلك بسبب فقدان ذلك التوازن العجيب بين العلم أيًّا كان مصدره، والحكمة أو الفلسفة كحالة مرتبط بعضها ببعض.
وجه الدهشة في الأمر أن العلم التجريبي تحوَّل في عالم اليوم إلى أصولية جديدة، وإلى واقع مجرد من الفهم الفلسفي للعلم ومنتجاته؛ فالغرب اليوم -ممثلاً ببعض علماء اليوم - أصبح غالبًا ما ينظر إلى الفلسفة على أنها مختلفة تمامًا عن العلوم، بل حتى معادية لها، بينما ذلك على العكس تمامًا؛ إذ لا بد أن يكون للفلسفة تأثيرٌ مهم على العلوم. يقول ألبرت أينشتاين إن المعرفة بالخلفية التاريخية والفلسفية تعطي نوعًا من الاستقلالية عن الأحكام المسبقة، التي يعاني منها معظم العلماء. وهذا الاستقلال الذي خلقته البصيرة الفلسفية هو - في رأيي - علامة التمييز بين مجرد حرفي أو متخصص، وطالب علم حقيقي.
يمكن أن تأخذ مساهمة الفلسفة أربعة أشكال على الأقل: توضيح المفاهيم العلمية، والتقييم النقدي للافتراضات أو الأساليب العلمية، وصياغة مفاهيم ونظريات جديدة، وتعزيز الحوار بين العلوم المختلفة، وكذلك بين العلم والمجتمع. فقد لاحظ الباحث هانز كليفرز الباحث في علم الخلايا الجذعية والسرطان أن التحليل الفلسفي للنتائج العلمية يسلط الضوء على المشكلات الدلالية والمفاهيمية المهمة في علم الأورام وعلم الخلايا الجذعية، كما يقترح أن هذا التحليل ينطبق بسهولة على حقول التجريب في الواقع. وما وراء هذا التوضيح المفاهيمي لهذه الفكرة أن العمل الفلسفي له تطبيقات في العالم الحقيقي كما يتضح من حالة الخلايا الجذعية السرطانية في علم الأورام.
يمكن للفلسفة التي تكمل دورها في التوضيح المفاهيمي أن تسهم في نقد الافتراضات العلمية، بل يمكن أن تكون استباقية في صياغة نظريات جديدة وقابلة للاختبار والتنبؤ، تساعد في وضع مسارات جديدة للبحث التجريبي.
وخلاصة القول: إن العلم الحديث من دون فلسفة سوف يصطدم بالجدار السابق الذي أسقط الحضارات الإنسانية السابقة؛ إذ إن طوفان البيانات داخل كل مجال سيزيد من صعوبة الربط بين العلوم، وإهمال الاتساع والتاريخ سيزيد من الانقسام والفصل العلمي الفردي.
كما أن التركيز على الأساليب والنتائج التجريبية سيؤدي إلى ضياع الرؤية والفهم الحقيقي للعلم. وقد كتب كارل فويس: «المجتمع الذي يسمح لعلم الأحياء بأن يصبح انضباطًا هندسيًّا يشكل خطرًا على نفسه. نحن بحاجة إلى إعادة تنشيط العلوم على جميع المستويات، فتعود إلينا فوائد العلاقات الوثيقة مع الفلسفة».
ختامًا، تُستمد الفلسفة بلا كلل من الاكتشافات العلمية، وهي بمنزلة طاقتها المتجددة، وتستفيد من مادتها العلمية لتعميمها على نطاق واسع، في حين أنها تضيف إلى العلوم النظرة العالمية والمنهجية لمبادئها العالمية؛ فالعديد من الأفكار التوجيهية العامة التي تكمن في أساس العلم الحديث تم التعبير عنها لأول مرة من قِبل القوة الإدراكية للفكر الفلسفي؛ فقد أعطى سبينوزا أرضية للمبدأ العالمي للحتمية، وتم تطوير فكرة وجود جزيئات كجزيئات معقدة، تتكون من ذرات في أعمال الفيلسوف الفرنسي بيار غاسندي، وكذلك ميخائيل لومونوسوف الروسي، وهكذا..