د. حمزة السالم
الفكر الاقتصادي هو نتاج عن الفكر الأيدلوجي وتابع له وليس العكس. والتخطيط المركزي للسوق أثبت فشله في جميع الدول الشيوعية والحكومات الاشتراكية. وما أهون فشل التخطيط المركزي للسوق إذا ما قورن بفشل التخطيط المركزي للأيدلوجيات. فالشيوعية لم تستطع أن تفرض فكرها على شعوبها إلا بالحديد والنار، وكذا هي حال كل أيدلوجية تعجز على أن تقوم بنفسها فتلجأ إلى الجبر والإكراه بقوة السلطان وتطبيل الإعلام، تحت غطاء السرية والتكتيم. وبخلاف الشيوعية، نمت الرأسمالية وتطورت وتحولت وتبدلت عبر العقود تحت الهواء الطلق في سوق الحراك الفكري الحر، ففرضت فلسفتها على شعوبها بالإقناع والقبول.
الحراك الفكري في المجتمع كالسوق: إما أن تكون تنافسية والبقاء فيها للأصلح والأجود، والطيب يطرد الخبيث، وإما أن تتدخل الحكومات فيها فتفسدها وتعرقل نموها فتحتل موقعها في مؤخرة الأمم، ترفع شعارات التزييف الفكري والاقتصادي حينًا من الزمن حتى تضطر الحكومات إلى أن تتخلى عن مبدأ التخطيط المركزي للفكر وللسوق على حد سواء، إما على أيد أُمنائها وعقلائها أو خوفًا على نفسها من ثورات الشعوب الدامية. وشاهد ذلك ما رأيناه أمامنا من التحولات في روسيا وآسيا وأوروبا الشرقية وفي بلاد الصين والهند وبلاد العرب.
حطمت الصناعات الحربية في القرن المنصرم إستراتيجية الأسوار والقلاع والخنادق فلم تعد هناك عوائق تحول دون اختراق العدو. وفي حصار الفكر، كان القتل والسجن والنفي -إلى عهد قريب - كفيلاً بالقضاء على الشريحة المفكرة في الجيل الأول من المجتمع المدني ومن ثم تُدجن الأجيال في حصار فكري أيدلوجي يخدم طائفة قليلة على حساب تخلف الأوطان وفقر الملايين من شعوب تلك البلاد. وكما فعلت الصناعات المتقدمة في تحطيم دفاعات المدن، فكذا فعلت الاتصالات الرقمية في العقد الذي نعيشه في تحطيم حصار الفكر، فلم تعد هناك قوة تستطيع أن تفرض أيدلوجية معينة ولا أن تحجر على فكر الشعوب، والبقاء للأصلح.
التخطيط المركزي للفكر أو للسوق هو معول هدم الحضارات وهو كاتب سيناريو الفقر والمأساة، وهذه هي التجارب ماثلة أمامنا من كوريا الشمالية مرورًا بدول العالم ووصولاً إلى أوربا الغربية وأمريكا. البضاعة الجيدة والرخيصة السعر، لا تحتاج إلى سلطة لفرضها على المستهلك. وكذلك الفكر لا يحتاج إلى سلطة تؤيده، إلا إذا كان هزيلاً مفلسًا من المنطق وعاجزًا عن مقارعة الخصوم. فلم تمارس حكومة قط في العصر الحديث عملية التخطيط المركزي للفكر والأيدلوجيات بالجبر والإكراه، إلا وأصبحت أيدلوجيتها أطلالاً يبكي عليها قدامى محاربيها.
تحديد الأسعار من قبل الحكومات هو فتيل إشعال السوق السوداء وازدهارها، مما يخرج الحكومات جملة وتفصيلاً من السوق الحقيقية التي يتبايع فيها الناس، فتكثر الجريمة وينتشر الظلم وينهار الاقتصاد. وكذا تحديد الفكر من قبل جهة واحدة -في عصر المعلومات الرقمية- ما هو إلا دعوة صريحة وقوية لإقامة أكبر ساحة فكرية خارجة عن إشراف الحكومات وتوجيهها ليجد فيها بعض الخبثاء والأشرار أفضل بيئة لنشر الأفكار المنحرفة التي ستلقى قبولاً عند عامة البسطاء كردة فعل لرفضهم الإكراه الفكري.