د. إبراهيم بن محمد الشتوي
درجت عادة الدارسين على اعتبار المناهج الشكلية بعيدة عن الإيديولوجيا، وذلك أنهم يعتمدون على مكونات محددة في بناء النص، يجعلونها محور الدراسة أو وسائل للتفسير والكشف عن الدلالة. وهذه الأدوات ثابتة في النص لأنها من صلب تكوينه، ودلالتها أيضاً متواترة ثابتة في المعاجم ومصادر اللغة، والفروق بينها محدودة تتصل بالسياق مرة وبالمتكلم أخرى أو السامع ثالثة. وهو ما يجعل الدرس الأدبي علمياً بحتاً بعيداً عن التحليل أو التوظيف الإيديولوجي العميق.
لكننا حين نتأمل هذه المناهج (الشكلانية)، والخطاطات التي تعدها لتحديد عناصر الحكاية خاصة في العناصر البنيوية كما هي لدى بروب ومن جاء بعده من أصحاب التحليل البنيوي، نجدها في رؤيتها التحليلية تعرض عن الشخصية بوصفها عنصراً سرديًا مهماً، وتتجاوز كل ما يمكن أن يقوم به في العملية السردية (وأنا هنا لا أتحدث عما يقال عن الفرق بين الشخص والشخصية)، وتدمجه مع الحدث الروائي في عنصر واحد مرة في الوظيفة التي يقوم بها، وأخرى في الفواعل.
والقضية في البروبية (من بروب)، أن الشخص في الحكاية يفقد قيمته ومكانته للوظيفة التي يقوم بها، ومن خلال هذه الوظيفة تتحدد فواعل الحكاية، وهذه الفواعل مرة أخرى يقوم وصفها على التعريف بالوظيفة، ما يعني أن الوظيفة والفواعل متداخلتان لدرجة أن كل واحد منهما يعرف الآخر، ما يعني أيضاً أن صفات الشخصية التي تسهم في تكوينها لا اعتبار لها عند الحديث عنها.
فالشخصية لا وجود لها حقيقي في التحليل الشكلي والبنيوي، فدوافع الأفعال، وخلفيات الشخصية التاريخية، والقدرة على الاختيار، وغيرها كثير مما يعد في بناء الشخصية ويسهم مساهمة فاعلة في سيرورة القص لا وجود له في هذا التحليل، خاصة وأن الشخصية كانت -في بعض الرؤى- هي مدار القص، وليس القص الواقعي بل أيضاً القص الشعبي، ونستطيع أن نضرب على ذلك مثلاً بالسيرة الهلالية، فهي تقص مغامرات أبي زيد الهلالي، أو حكايات السندباد.
وليس الأمر مقتصراً على الشخصية وحدها، بل يتجاوزه إلى المكان الذي لا يكاد يلقى عناية لدى هذه المدرسة في تحليلها، مع أنه يعد الفضاء الذي تتحرك فيه الشخصية، وتتم فيه الأحداث، ولا يمكن أن يقوم تحليل لأفعال الشخصية دون الوقوف على تأثير المكان (النصي طبعاً) على الشخصيات والأفعال.
والأمر عينه يقال عن الزمان، فهو غير مذكور في هذه الأطاريح، ولا نجد له عناية كبيرة أو قليلة مع إمكانية دراسته، باعتباره عنصراً بنائياً حدثياً، بناء على أن الزمن قد يكون عاملاً حاسماً في منع الحدث من الوقوع، أو في تحقيق النجاح لمن رغب أن يقوم بالفعل، وغيرها من الجوانب الأخرى، والدراسات التي قامت حول هذه العناصر وسواها كما لدى الإنشائيين لا تتصل بما نحن بصدده.
وهذا الاتجاه عينه نجده عند صاحبه (بارت) الذي يجعل التحليل البنيوي للحكاية يقوم على عنصرين: الوظائف، والقرائن، فالوظائف تقوم على عناصر حدثية، والقرائن على إشارات دلالية ومواد تقدم الشخصية والزمان والمكان، ثم تؤلف الوظائف فيما بينها مقاطع يتم من خلالها تحليل الحكاية، وهذا يعني أن مدار تحليل الحكاية بنيوياً الحقيقي هو الوظائف، وأما القرائن وما تقوم بها ليست سوى عامل مساعد في وصف الحكاية.
ويمكن تعريف الوظيفة هنا بأنها العمل الذي تقوم به الشخصية الحكائية، وتدفع السرد والحدث في طريق التطور، وتنطوي على حافز، وفعل، وغاية أيضاً، وهذا يعني أنها تمثل بؤرة تلتقي بها عدد من المكونات النفسية والاجتماعية، مع القوة الدافعة للفعل. كما في وظيفة مثلا (الابتعاد)، فهي تحمل الرغبة في الانتقال المكاني، والقدرة عليه، وفعله، وكذلك القول في سائر الوظائف (كالخداع)، أو(التواطؤ)، أو (الإساءة) ونحوها.
وبصورة أخرى يمكن أن نقول إنها: «القوة الفاعلة» بالسرد التي تحدد الاتجاه الذي يسير فيه القص، وتقود الشخصية من داخلها، وهي بهذا تختلف عما تحدثنا عنه من قبل كالمكونات النفسية المجردة، أو الشكلية المجردة للشخصية، أو ما يتصل بتقديم المكان والزمان مما عده بارت في القرائن.
وهذا التحديد للوظيفة، وجعلها عماد البنية الحكائية، وتتبع حركتها أو فعلها في البناء الحكائي، يعني إعطاء أهمية خاصة لها بوصفها هي عماد العملية النقدية، وهي التي تحدد الاتجاه الذي ينبغي أن يسير فيه النقد حين يتحدث عن الشخصية أو عن مضمون الحكاية؛ بمعنى أن البحث هنا يعنى بالحوافز، والرغبات، والقوى المحركة للسرد، والغايات التي يسير نحوها، وهذه العناصر ليست عناصر شكلية بالمعنى الفارغ، ولا عناصر تزيينية، وإنما هي عناصر إيديولوجية بالمعنى الواسع للإديولوجيا التي تعني السلطة أو القوة الدافعة الداخلية للإنسان لفعل أمر ما نحو غاية محددة سلفاً، تتداخل فيها الحوافز بالغايات والإمكانيات (القدرات) كما هو في التحديد السالف الذكر.