أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: اتّكأ مسرح اللامعقول على دعوى معاناة اللغة من فقدان قيمتها.. انظر (هنجلف) ترجمة الدكتور (عبدالواحد لؤلؤة) ضمن كتاب (مصطلحات النقد عن أدب اللامعقول) ص33 و 178؛ وهكذا بحثت مقالات في بعض كتبي عن قضية تفجير الكلمة، أو اللغة، ومقولة (أفلاطون) في ذلك، وقلت: إنّ فلسفة العدم المتّسعة لأسفار هي موجود بتوسّعٍ في كتاب (الوجود والعدم) لـ(جان بول سارتر [1905- 1980ميلادياً/ 1323-1400هجرياً])؛ وذلك الفكر غير المضمون اللغوي للعين والدال والميم الذي تحصره مفردات أو جمل مفيدة معدودة.. ولا تنسوا أنّ مسرح اللامعقول الذي يعاني من فقدان اللغة قيمتها هو نفسه المسرح الذي يعتمد بشدة على الوهم والحلم، ويرفض الحوار الواعي.. انظر (هنجلف) ص 31 و32؛ ولهذا دلالته كما سيأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى.. واللا معنى في دعوى عجز اللغة جاء في نفس المصدر الآنف الذكر؛ ومن مبادئ اللا معقول التصميم على تجنّب الحوار، وأن تكون مصطلحاتهم تقريباتٍ، وليست ساحات قتال.. ص14؟!
قال أبو عبدالرحمن: وميوعة اللغة عندهم نوع من العبث والعدمية أيضاً؛ فالأنا مثلاً؛ وهو موضوع لمرموزات ترمز إليها اللغة: يستحيل القبض عليه؛ لأنه متبدّل متغير في كل لحظة!!.. ويظهر لي أنّ المعاناة من اللغة القاموسية ليس همّاً لمنظّري أدب اللا معقول؛ وإنما هو همّ حداثي؛ وآخر عهدي بالمنظرين الحداثيّين كان بإضمامةٍ ممتعة للدكتور (عناد غزوان) عن لغة الشعر الحداثي في بحثه الرائد (الصورة في القصيدة العراقية الحديثة) نشره بمجلة أقلام عدد 11 - 12من سنة (22)؛ ولقد هشّ وبشّ لمثل هذه الصور: (خنجر العقم، وانتفاضة القريحة، وعصر النحاس الحزين، والمدى الدموي، والفجر المشنوق في المقلة، ولؤلؤة الغضب.. إلخ.. إلخ).. وأضيف إلى رصد الدكتور (عناد) تشكيلاتٍ في المكان ذات المدلول الإيحائيّ؛ ولعلّها أقلّ عبقريةً من تشكيلات (سوق القرية)؛ ومن ذلك قول (السّياب) في قصيدته (مدينة السندباد) من ديوانه (أنشودة المطر):
[أهذه مدينتي؟ أهذه الطلول؟.
خط عليها: (عاشت الحياة).
من دم قتلاها فلا حياة.
فيها ولا ماء ولا حقول.
أهذه مدينتي؟ خناجر التتر.
تغمد فوق بابها وتلهث الغلاة.
حول دروبها ولا يزورها القمر!
أهذه مدينتي؟ أهذه الحفر؟
وهذه العظام!.. يطل من بيوتها الظلام.
ويصبغ الدماء بالقتام].
قال أبو عبدالرحمن: لست أريد فلتة صورةٍ لا تبهر التراثيّ كدلالة (خناجر التتار) على الظلم العدواني الفادح؛ وإنما أعني تشكيلاً مكانياً متجاوراً مع ما بين دلالاتها من التنافي مثل: عاشت الحياة، وفلا حياة، ولا حقول، وخناجر التتر، ولا يزورها القمر؛ وكل هذه صور تعبّر بغير تعبيرٍ قاموسي عن الواقع المرير؛ وإنما فيها مأثرةً تاريخيةً ترتبط بالطلول مثل: عاشت الحياة.. إنه إيحاء بتاريخ القرية الشجاع وإن كان حفراً وعظاماً؛ والمثال دائماً شارح غير حاصرٍ، وسأجد ما لا يحصيه العدّ من صورٍ غير قاموسية تعتمد على الخيال، أو الحسّ، أو العقل في اتخاذ علاقاتٍ مجازية، أو ترسم ما يشبه الكاريكاتير كقول (المتنبي):
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه
أو:
فأيّكما كان من خلفه
فإن به عضّة في الذنب
أو كما قالت الشاعرة الأندلسية (حمدة بنت زياد المؤدب) تصف الوادي:
يروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النّظيم
وسأجد من الشعر الصوفي، ومن الشعر الحداثي ما لا يحصيه العد؛ وذلك بعكس الشعر التراثي في نفي الإحصاء صوراً غير قاموسيةٍ تعتمد على الشعور والاستبطان، وتكون العلاقة المجازية نفسيةً؛ وذلك على نحوين: أحدهما علاقة من الشعور النفسي في آلامه ومسرّاته بناءً على تراسل الحواس عند الرمزيّيين، وقد مثّلت كثيراً بتشبيه (بودلير) لشعاع الشمس بالبركان؛ لأنّ ألمه على النفس كألم البركان، ومثّلت بتعبيره عن الحب المعنوي بأنه شمس حمراء، ومثلت بنقدي بعض المعمّمين من نقّاد لغة الجرائد حينما أنكروا وصف القبلة بالحرارة في قبلٍ بضم القاف؛ وذلك جمع قبلة ذوي الوداع.. وثانيها علاقة نفسية من اللا شعور تتداعى كما تتداعى الخواطر؛ ففي المعجم الأدبي ص 224 حديث عن اللا شعور بأنه عوامل نفسية غير محسوسةٍ تؤثّر في السلوك البشري، وعرّفوه بهفوات اللسان والنسيان والأحلام والأعراض العصابيّة، وارتادوه بتحليل الأعمال الفاشلة، ودراسة الأحلام؛ وإلى لقاءٍ في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.