محمد آل الشيخ
هناك كثير من العوامل التي أدت إلى تعثّر مشروع (ولاية الفقيه) الإيراني نظرياً وتطبيقياً، أهمها أن غاية هذا المشروع النهائية والأخيرة كان إقامة إمبراطورية شيعية متأسلمة، في عصر -وهذه نقطة هامة- لا يحتمل إقامة الإمبراطوريات، فالدولة الوطنية وغير الأممية، والتي تحكمها الجغرافيا، هي دولة العصر، أما تلك الدول التي تتجاوز الحدود الجغرافية، أو لا تعترف بها، لم يعد لها علاقة بالواقع وإنما علاقتها بالتاريخ، الذي مضى وانتهى، وعقارب الساعة لا يمكن أن تعود للوراء. إضافة إلى أن الدولة الدينية الثيوقراطية تقوم على أسس لا تكترث بمصلحة الفرد قدر اهتمامها بنشر (الأيديولوجيا)، وصرف جميع ثروات الأوطان عليها، كما هو حاصل الآن في إيران والنزعة التوسعية التي تسيطر على أذهان قادة إيران، سواء الملالي منهم، أو جنرالات الحرس الثوري؛ وهذا -بالمناسبة- ما يشارك منظرو جماعة الإخوان المسلمين نظام الملالي فيه، لاسيما في الغايات النهائية لهؤلاء وأولئك، الفرق أن المتأسلمين الإيرانيين يدعون إلى جمهورية إسلامية، بينما أن جماعة الإخوان يدعون إلى إقامة ما يسمونه (دولة الخلافة)، على أنقاض الدول الوطنية المعاصرة، وهو يمثل -أيضاً- مشروع أردوغان في تركيا، الذي يعمل على استعادة (حدود) الإمبراطورية العثمانية التركية التي عرفها التاريخ في السابق.
ثورة الخميني قامت في نهايات العقد السابع من القرن العشرين، ونجحت لأسباب مختلفة، لكن أهمها طموح الشاه الإمبراطوري في ذلك الوقت، ليأتي الخميني لا ليغير الأهداف ويقومها، وإنما ألبس الطموحات الشاهنشاهية العمة المتأسلمة السوداء، وامتطى العامل الطائفي، ليكرر الأسباب ذاتها التي أسقطت الشاه، وهو الطموح الإمبراطوري، في زمن يرفض الإمبراطوريات. لذلك اصطف معارضو الشاه بجميع فئاتهم مع الخميني، وبهذا الاصطفاف غير المسبوق في التاريخ، سقط الشاه، لكن الخميني ما إن تمكن من السلطة، وأمسك بزمامها، حتى التفت إلى جميع الفئات غير الدينية، التي شاركت معه في إسقاط الشاه وسحقها، وانفرد المتأسلمون الشيعة الإيرانيون بالسلطة، وكما يحدث في كل ثورة عند اقتسام الغنائم، التفت على كل شركائه المتأسلمين من المراجع الدينية الشيعية، الذين لا يقرون بـ(ولاية الفقيه) وتم أقصاؤهم تماماً عن التركيبة السلطوية في الجمهورية الجديدة، وانفرد هو بالسلطة كأيّ ديكتاتور آخر.
ومعروف في أدبيات المتأسلمين، سواء كانوا شيعة أو سنّة، أنهم لا يكترثون بالتنمية الاقتصادية، ولا برفاهية الفرد، قدر اهتمامهم بالتوسع والقوة المسلحة، والوسائل التي تنتجها في النهاية.
وأنا على يقين تام أن سقوط تجربة جمهورية الخميني حتمي للأسباب التي ذكرت، إضافة إلى أن هذه الاستثمارات السياسية كلفتها أموالاً طائلة، أضف إلى أن الحفاظ على استمراريتها تتطلب -أيضاً- أموالاً إضافية؛ الأمر الذي يجعل توفير هذه الأموال مستحيلاً في ظل الحصار الاقتصادي الخانق الذي تفرضه أمريكا على إيران، ولا تستطيع عملياً التملص منه، خاصة إذا طال أمده، وكل المؤشرات تشير إلى أن هذا الحصار لن يشهد نهاية قريبة.
وعلى العموم فإننا نشهد هذه الأيام نزوعاً لدى شعوب المنطقة، بما فيها شعوب إيران، نحو مصالح الفرد الاقتصادية، وجعلها (أولوية) تعلوا في سلم الأولويات على الأيديولوجيا، التي كلفتهم، وما تزال، الكثير والكثير جداً من الأموال، إضافة إلى أن نظرية ولاية الفقيه ذاتها لا يوافق عليها أغلب مراجع الشيعة الجعفرية المعتبرين، كالإمام السستاني في العراق مثلاً، فضلاً عن أن كثيراً من الإيرانيين الشيعة حولوا ولاءهم المرجعي إلى السستاني بدلاً من خامنئي، حتى يُقال لم يبق معه الآن إلا الميليشيات الشيعية فقط.
لذلك أنا مطمئن أن تشدد وتطرف خامنئي، وانتهاجه سياسة القمع، هو في صالحنا على المدى الطويل، فهو -قطعاً- سيجعل مكونات قوة إيران تتآكل على المدى البعيد، ويجعل بنيتها الاقتصادية، وبالذات ما يتعلق بالخدمات، تهترئ مع الزمن.
إلى اللقاء،،،