أ.د.عثمان بن صالح العامر
لقد حث الإسلام على التبادل الثقافي، وندب أتباعه للانفتاح على الآخر والسير في الأرض، والنظر في صفحات الماضي وحال الحاضر واستشراف المستقبل، ويمكن إيجاز القول في موقف الإسلام من هذا المنزع بالنقاط التالية:
- إن الله عز وجل جعل هناك مشتركا إنسانيا يميز به الرب المعبود بني آدم عن بقية المخلوقات، وهو كما في نصوص الكتاب والسنة «الخلق، التكريم، الفطرة، التسخير، الاستخلاف في الأرض»، ومن الطبيعي أن يتولد عن هذا المشترك ميل نفسي للبحث عن أرضية مشتركة يحاول الجميع أن يقفوا عليها، علّها تسهم في تأسيس مشروع إنساني موحد يحقق الأمن والسلام النسبيين للشعوب.
- إن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أن علة الاختلاف البشري (التعارف) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، واللغويون يسمون اللام في {لِتَعَارَفُوا} لام العاقبة، بمعنى أن هذا الاختلاف ينبغي ألا يكون مدعاة للفرقة بل سبباً للتلاقي على قواسم مشتركة تعارفوا على الأخذ بها وتناهوا عن اتباع مضاداتها.
- إن القرآن الكريم وهو كلام الله المنزل على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي لنا خبر الأمم والشعوب منذ بدء الخليقة وحتى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ويخبرنا فيما يخبر سبحانه عمّا قال بنو إسرائيل في نبيهم موسى عليه السلام، بل ماذا قالوا في حق الله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ...}، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، ويأجرنا ونحن نقرأ أفكارا ضالة يرفضها الرب سبحانه ويوجب علينا عز وجل تنزيهه - تسبح وتقدس- عنها، فهو جل جلاله كما قال عن نفسه: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}، لأن هذه النصوص جاءت في سياق الاطلاع على ما عند الآخر، وفي هذا دلالة على حث هذا الدين الخالد الأتباع على الاطلاع على ثقافة الآخر والتبادل الثقافي معه.
- إن الله سبحانه وتعالى خلق البشر بعضهم محتاج لبعض، ولا يمكن لفرد أو حتى مجتمع أن ينعزل بنفسه عن عالمه الذي يعيش فيه، خاصة في مثل هذا الزمان، ليس فقط في باب الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا والعلم الدنيوي فحسب، بل حتى في سوق الثقافة والأفكار، ولذا قال «ابن خلدون»: «...هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يكمل وجود هموما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه لهم».
- إن القرآن الكريم أمر بسؤال أهل الذكر: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وأهل الذكر في كل فن المختصون به، باختلاف ضروب العلوم والمعارف والثقافات التي يحتاجها الإنسان ولغاتها وأجناسها، وهذا يجعل السؤال مفتاح التبادل الثقافي مع الآخر.
- إن الله عز وجل حين منّ علينا بمنافذ المعرفة جعلنا مسئولين عنها في ميزان الشرع {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}، وهذا يعني ضمناً أنك مسئول عن توظيفها التوظيف الأمثل خدمة لدينك أولاً ثم لوطنك ولأمتك وللإنسانية جمعاء، وهذا يتطلب ممن يجد في نفسه القدرة وعنده الرغبة والإرادة لمعرفة الآخر والانفتاح عليه أن يقرأ ويطلع على الثقافات المختلفة ويفتح قنوات التواصل معها فيما هو من المشترك الإنساني.
- إن في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواقف والأحداث ما يبرهن على أن التبادل الثقافي مكون أساس من مكونات نسيج الثقافة الإسلامية، فعن جذامة بنت وهب الأسدية رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم» (والغيلة هو وطء المرضع)، ومما أثر عنه عليه الصلاة والسلام قوله: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كتب النبي كتاباً أو أراد أن يكتب، فقيل له: إنهم لايقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة، نقشه محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده». وقصة الخندق معروفة إذ إن من أشار به على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سلمان الفارسي رضي الله عنه قائلاً: «يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفرة، وعمل فيه بنفسه».
- إن تاريخنا الإسلامي مليء بالشواهد والبراهين على التبادل الثقافي بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى التي من بينها الفلسفات الشرقية، وعلى رأسها الفلسفة الكونفوشستية.
- إن التبادل الثقافي وحوار الحضارات أضحى اليوم في حق الثقافات الشرقية خاصة ضرورة من ضرورات التكاتف والتكامل في مواجهة الثقافة الغربية التي تريد غزو العالم وجعله نسيجاً ثقافياً موحدا.
- إن الإسلام أمر بالنظر وقراءة التاريخ والأثر والتأمل والتفكر والفقه والتدبر في سنن الله الكونية والتاريخية {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا...}، وهذا كله يصب في النهاية في ما نحن بصدده من قراءة تراث الآخر والتبادل معه ثقافيا.
- كما أن الإسلام رغّب في طلب العلم وحث على التعلم وأثنى على العلماء وامتدحهم، ومع أن أصل الممدوح العلم الشرعي كما هو معروف، فإن هذا لا ينفي أن تكون معرفة ثقافة الآخر داخلة ضمناً.