د. حمزة السالم
هتلر وموسوليني هل هما زعيمان ارتقيا سدة الحكم في ألمانيا وإيطاليا على أكتاف المنتخبين في نظامَيْن ديمقراطيَّيْن؟ كلا الزعيمَيْن كانا مناضلَيْن ضد الفساد والفقر، وخرجا من السجن لسدة الرئاسة بقوة الديمقراطية الانتخابية. فما إن توليا زمام السلطة حتى طهَّرا بلادهما من الفساد، ونهضا بالاقتصاد والتعليم والصحة. واستطاع هتلر أن يبني جيشه بعد أن التف بذكاء حول الحظر الدولي على ألمانيا لتصنيع السلاح وتطوير الجيش، الذي فُرض عليها بعد الحرب العالمية الأولى. وقام هتلر بعد ذلك باسترداد ما فقدته ألمانيا من أراضيها الشاسعة بعد الحرب دون قتال ولا نزاع بالدبلوماسية الذكية والمدعومة بقوة جيشه واقتصاده اللذين يرجع الفضل له في صناعتهما. فعبدت الجماهير الزعيم الإصلاحي القوي الأمين، وأصبحت تسبح بحمده صبحًا وعشيًّا.
ما غاب عن الألمان والإيطاليين المهووسين بزعيمَيْهما الديمقراطيَّيْن المصلحَيْن هو أن الأيديولوجية هي مقتل الديمقراطية والإصلاح. فالأيديولوجيات وإن كانت مغرية لكثير من شعوبها، وسلم للصعود بأصوات المنتخبين إلى سدة الزعامة، إلا أنها دكتاتورية دموية عنيفة، تعمي البصيرة. فجوهر الأيديولوجيات قائم على الاعتقاد بأفضليتها المطلقة على غيرها، مما يجعلها أعلى درجة من المنطق الإنساني في التعامل البشري. والاعتقاد بأن هذه الأفضلية مكتسبة بالولادة. والأديان والمذاهب والأعراق والألوان يغلب عليها الاكتساب بالولادة. وبما أن إنسانية المؤمنين بالأيديولوجيات في مرتبة أعلى من الإنسانية العامة فهي تبرر بذلك الجرائم والدماء والظلم الذي يقع في سبيل تمكينها، كما يبرر الإنسان قتل الحيوان الصائل والصيد ونحوه؛ فالإنسان أرقى من الحيوان، وصاحب الأيديولوجية يعتقد أنه أرقى بأيديولوجيته من غيره من البشر. تمامًا كما كان مفهوم العبودية يبرر الاسترقاق بتبريرات متنوعة رغم انتهاكه الصارخ لكل المعاني الإنسانية للعدل وللرحمة.
والأيديولوجيات تقوم عادة على العاطفة، وتحتاج إلى الشعوب لإحيائها، والشعوب لا يحركها إلا الفقر والظلم، حتى في الأديان. وبهذا، استغل هتلر ظلم الحلفاء لألمانيا حين فرَّقوها وقيدوها بالشروط بعد الحرب العالمية الأولي؛ فظهر بفكرة سمو العرق الألماني على الشعوب الأخرى، كما استغل الفقر الذي كان موجودًا في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ليؤلب الناس على الحكومة؛ ليفوز هو بالانتخابات؛ ليرقى بألمانيا إلى قمة الإمبراطورية، ثم يهوي بها سريعًا ممزقة مشتتة.
وبعد أن قُتل أكثر من خمسين مليونًا في حرب أشعلتها أيديولوجية (هتلر) الزعيم المصلح المنتخب ديمقراطيًّا، أدرك الغرب خطر الأيديولوجية السياسية وأبعادها، وفهمها جيدًا. فهي تنهض بمجتمعها سريعًا إلى أعالي السماء، ثم تهوي به من هناك إلى وادٍ سحيق. فربَّى الغرب أجياله إعلاميًّا وتعليميًّا واجتماعيًّا على كره الأيديولوجية السياسية بشرحها في المناهج التعليمية والإعلامية شرحًا تحليليًّا موثقًا بالأحداث التاريخية؛ لتتبصر الأجيال على قناعة؛ فلا تستخفها نداءات الأيديولوجيات البراقة المغرية. ولذا ترى اليوم في الغرب أن المقتل السياسي للمرشح الانتخابي الذي يفقده الفوز في الانتخابات هو إظهاره شيئًا من الأيديولوجية.
الأيديولوجية مهما كان قائدها مصلحًا وأمينًا - كهتلر وموسوليني - ومهما كانت نصوصها سامية وجميلة في خطابها، إلا أنها لم تحقق الحرية والعدالة لشعوبها؛ لأنها ديكتاتورية خلقة.