د. محمد بن إبراهيم الملحم
يعتبر قياس الأداء النوعي للتعليم من المعضلات التي يتحير أمامها كثير من المخططين وصانعي السياسات التعليمية، وأكثر المقاييس المتوفرة هي مؤشرات كمية Quantitative Indicators «يفترض» مستخدموها أنها تعكس الجودة (كحل وسط لصعوبة القياس)، وقد تكون على شكل مؤشرات عامة أو مؤشرات أداء KPIs لكنها تشترك في كونها تتعامل مع كميات وأرقام تحققها المؤسسات التعليمية مثل أعداد المدارس والطلاب ونسبة المعلم/ الطالب ومتوسط عدد سنوات التخرج ونسبة الالتحاق ونسبة التسرب وما إلى ذلك. وهذه المؤشرات يمكن أن تكون صالحة لقياس الجودة إذا صحت افتراضات مهمة حولها، وهي أن عملية التعليم تسير بالأسس المعتبرة وبأخلاقيات مقبولة: فمثلاً لا يمكن أن يكون عدد سنوات التخرج معيارًا لجودة نظام تعليمي بينما واقعه أن (لم يرسب أحد)! ولا يمكن أن تكون نسب الالتحاق أو التسرب معيارًا لنظام اقتصادي/ اجتماعي socioeconomic يقوم التوظيف فيه على الشهادة لا على الكفاءة، وهكذا فإن هذه المؤشرات المشهورة في أدبيات القياس والتعليم الدولي وخاصة تلك المعتبرة في البنك الدولي والمنظمات الدولية المهتمة بهذا الشأن والمتخصصة فيه بقوة كاليونسكو ومنظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي ستقف عاجزة أمام محاكمات من هذا النوع، وسينتهي بها الأمر أنها غير صالحة لغرض القياس النوعي كما تفعل في البيئات الأخرى الخالية من هذه المشوشات.
القياسات الكمية في مثل هذه الحالة ستؤدي دورها المحدود بها كقياس كمي فقط يعكس الأداء من حيث هو وليس نتائج الأداء كمنتج نوعي يمثل غاية التعليم وهدفه الأساس، وتقتصر الفائدة في هذه الحالة على خدمة قياس التشغيل operation measurement فقط وليس على قياس مخرجاته المرتبطة بالقيم الإستراتيجية للتعليم وغاياته الوطنية. وهنا المأزق والإشكالية الكبرى: كيف نقيس جودة التعليم في مثل هذا الجو والظروف المليئة بالأتربة والغبار وربما الغيوم والمطر؟ والواقع أن مثل هذا الجو في حقيقته كطقس معاش ألفناه مؤخرًا ونشعر بالضنك النفسي الذي يجلبه، وكذلك الأمر مع حالة محل التشبيه هنا وهو التعليم المتأزم بالمشوشات والإشكالات، أعتقد أن الأمر لن يكون سهلاً وميسورًا ولا يجب أن يكون حلاً واحدًا برؤية واحدة بل هو مجموعة حلول تعمل معًا كحزمة واحدة Package، ولعلي أقترح شيئًا منها هنا.
ما سأقترحه يرتبط بخطط التطوير والتحسين، ولا ينطلق ابتداء من التقييم، لذا فهو كأسلوب قياس وتقييم يتكامل مع رؤية تطويرية وطنية، فيجب أن تكون هذه الخطط ذات طبيعة تركيزية ليتمكن القياس من صنع الأدوات النوعية ويتمكن من تدريب العاملين عليها كما يمكن فعليًا تطبيق عملية القياس في أرض الواقع طالما هناك عامل التركيز، بينما إذا انطلق التطوير في كل مجال وفي كل جانب صعب على المطبقين تنفيذه وأصبح قياسه عسيرًا ومكلفًا جدًا، ولذلك سيكون هناك ما يقال عنه «جهود»، ولكن لا تستطيع أن تعرف أين هي وما ثمرتها! ويكون هذا مسارًا موازيًا لمسار أكبر هو المسار الشمولي والذي يتناول القضايا الكلية في العملية التعليمية ويعمل على تطويرها بهدوء أكثر وبمدى زمني أكبر وقياسه يتناسب مع الرتم الذي يسير به.
المقترح يتناول أيضًا فعالية عملية القياس لتكون مرتبطة باتخاذ القرار، فلا يكون قياسًا سنويًا أو موسميًا، بل هو مستمر ويعطي مؤشرات أولاً بأول خاصة في المجالات العلاجية (أو التطويرية/ التحسينية)، ولك أن تتصور ما يسمى بغرفة التحكم والتي من خلالها ينظر أصحاب القرار على بورصة التحسين أول بأول، ولكي تكون معلومات شاشة البورصة هذه حقيقية موثوقًا بها فلا بد أن يصرف عليها بسخاء في صناعة الأجهزة التي تديرها بأفرادها المؤهلين المدربين وتوفير الأدوات التي تحتاجها والخدمات اللوجستية التي ستسهل عملها، ذلك أن الاعتماد على الأجهزة الموجودة بما فيها من مشكلات أداء هي نفسها أثبت أنه قد لا يقدم المعلومة الدقيقة مع الأسف.
سأفصل أكثر في المقالة القادمة بإذن الله.