د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** بوعيٍ ودونه نلقفُ أو تلقفنا أفكارٌ ما تزال تحت الاختبار، فتأخذ وضعَ التعليب غيرَ القابل للتقليب، وهو ما يلغي مساحة المحاكمة الحرة والحكم المنعتق من ضجيج المعتنقين ويقينهم بسلامة منطلقاتهم، كما انطلاقاتهم تسندهم قوةُ الصوت وبعدُ الصيت وسطوةُ العارفين وضجيجُ الهارفين.
** الأمر ممتدٌ في مختلف الأنحاء؛ إذ يمسُّ الشأنَ العامَّ والخاصَّ والثقافيَّ والسياسيَّ وروحَ التطلع وإيهامَ التصدع، وكما استطاع التتار والمغول يومًا بثَّ الوهن المفضي إلى الصَّغار أمامهم والتسليم بتفوقهم تتكررُ الحكاية مع كل الغزاة من لدن الأحزاب إلى الفرس ويهود، والجماعاتُ صورةٌ للأفراد، أو لنقل إن الأفراد هم مُكونو الجماعات، وتأثر الفرد كما تأثيره سينتهي بالمجموع مقتنعًا بما ساد وما يسود ومن قاد ومن يقود.
(2)
** وإذ يعنينا السائد الثقافي والقائدون في ميادينه فقد تسربت آراءٌ بدت جدليةً في بدء «انتثارها» ثم تحولت إلى معطياتٍ مسلمٍ بها أو تكاد بالرغم من أنها لا تتكئُ على معادلاتٍ علميةٍ ثبت اختبارُها وجاز انتشارها، وثمة مثلٌ متناولٌ؛ ففي زمننا كانوا يعيبون «الحفظة» الذين يستظهرون النصوص ويصمونهم بالأقلِّ ذكاءً، ويتباهى الأكثرون بصعوبة ملكة الحفظ لديهم إلى الدرجة التي تجعلهم وغيرَهم يتبرأُون منها كي لا يُتهموا بالترديد دون وعيٍ يقودهم إلى المحاكمة والحكم ويُخرجهم من سمات المثقفين ويعدُّهم آلاتٍ ناطقةً وليس أعلى منها، والناتج أن من صدَّق بهذه الفرضية أهمل الحفظ في صغره وعسر عليه في كِبره، ولم تتخطَّ أوعيته العلمية أن يكرر المكرر دون مرجعيةٍ تسعفه في الاستشهاد وتسمح له بالامتداد.
**وكنا فهمنا من مراتب أهل الحديث أن فيهم «المُسند» و»المحدِّث» و»الحافظ» ولكلٍ موقعُه، واستطاعوا - عبر علم الجرح والتعديل - فرز مروياتهم؛ فلم يكن الحفظُ مَلءَ أوعية بل وعي امتلاء، ولا عجب بعد هذا أن يحفظ الإمام أحمد 164-241هـ مليون حديث وضع في مسنده أربعين ألفًا منها عشرة آلاف مكررة، ويقول الإمام البخاري 194-256هـ إنه حفظ مئة ألف حديث صحيح ومئتي ألف حديث غير صحيح، ووثِق أحدُ علماء الشناقطة (محمد بن عبدالله ابن الحاج إبراهيم العلوي - توفي عام 1250هـ) أنْ «لو رُميتْ علومُ المذاهب الأربعة بجميع مراجعها لتمكن هو وتلميذٌ له من إعادتها»، (ملتقى أهل الحديث).
** وفي الضفة الأخرى نتكئُ اليوم على الرواةِ «العاميين» ونُعجبُ بهم ونفسح لهم في المناسبات والمنتديات والفضائيات، ويُشعرون متابعيهم بالعجز عن مجاراتهم لأنهم تربَّوا على إهمال الحفظ والانتقاص منه؛ فأي تناقضٍ أشد من أن تكون مقودًا في اتجاهٍ لا تعترف به ولا تُقدره؟!
(3)
** تقزيمُ الحفظ والحفظة نظريةٌ أثبت الزمن ضعف بصيرتها؛ لا في المرويات والأدبيات وحدها بل في الجداول الكيميائية والقواعد الفيزيائية والقوانين الهندسية والمعلومات الاقتصادية والجغرافية وغيرها، وصار الحفظةُ القادرون على استدعاء الرقم والواقعة والبرهان في صدارة المشهد العلمي والإعلامي.
** العائبُ غائب.