منصور ماجد الذيابي
يتضمن المعنى اللغوي للتربية عملية النمو والزيادة. وأن هذا النمو لا بد وأن يكون من جنس الشيء. وبالنسبة للإنسان يكون هذا النمو في جسمه وفي عقله وفي خلقه. وهذا المعنى اللغوي هو لب معنى التربية بالمعنى الاصطلاحي. وهناك معان عديدة لمفهوم التربية. ومنها المعنى الاجتماعي، وهو كل عملية تساعد على تشكيل عقل الفرد وخلقه وجسمه في حين يتضمن المعنى التعليمي للتربية غرس المعلومات والمهارات المعرفية من خلال مؤسسات معينة. أما المعنى الإسلامي للتربية فهو بلوغ الكمال بالتدريج، أي كمال الجسد والعقل والخلق. كما أن للتربية معنى اقتصادي يتمثل في عملية استثمار الأموال في الموارد البشرية.
في المجتمع الإسلامي يهتم المسلمون بتربية الإنسان على أن يحكم شريعة الله في جميع أعماله وتصرفاته، وذلك بتربية النفس على الإيمان بالله ومراقبته والخضوع له وحده. ولذلك فإن التربية الإسلامية تنشد بلوغ الكمال الإنساني لأن الإسلام يمثل بلوغ الكمال الديني، فهو خاتم الأديان وأكملها وأنضجها. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}. ولذلك تهدف التربية الإسلامية إلى تقوية الروابط الإسلامية بين المسلمين، ودعم تضامنهم الإسلامي عن طريق توحيد الأفكار والاتجاهات والقيم بين المسلمين عامة، كما تهدف إلى تنشئة الإنسان الذي يعبد الله وذلك بالعلم فهو سبب التقوى الصحيحة إلى معرفة الله.
ولأجل إدراك مفهوم التربية الإسلامية بشكل أكثر عمقًا، ينبغي أن نتعرف على خصائص هذه التربية، فهي أولا تربية متكاملة بمعنى أنها لا تقتصر على جانب واحد من جوانب شخصية الإنسان، بل تنظر إلى الإنسان نظرة متكاملة تشمل كل جوانب الشخصية. فهي تربية للجسم وتربية للعقل والنفس معًا. ولذلك تكون التربية الإسلامية تربية نفسية أي أنها تخاطب عاطفة الإنسان ووجدانه وقلبه وضميره. وقد أمرنا ديننا بأن نربي أنفسنا على الفضيلة وحب الناس والتعفف وعزة النفس. ومن خصائص التربية أيضا أنها تربية متوازية وتربية سلوكية مستمرة حيث أنها تحرص على إيجاد التوازن بين الدنيا والآخرة. قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}. ولهذا فإن التربية الإسلامية تقوم على تربية الإنسان تربية فردية ذاتية ليكون مصدر خير لجماعته، كما تقوم على تربية المجتمع. فالمسلم أخو المسلم، والمسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.
توصل علماء التربية إلى ضرورة تطبيق خصائص محددة في المنهج الإسلامي ومنها أن تكون موضوعات المنهج موافقة للفطرة الإنسانية بحيث يعمل على تزكيتها وحفظها من الانحراف. كما رأوا أن يكون المنهج سليمًا من التعارض، موجهًا وجهة إسلامية واحدة، وأن يكون مستواه موافقًا للمرحلة التي يوضع لها من حيث طبيعة الطفولة فيها ومن حيث الرجولة والأنوثة. ومن أهم خصائص المنهج هو أن يراعى في تطبيقاته ونصوصه حاجات المجتمع الواقعية ومنطلقاته الإسلامية المثالية كالاعتزاز بالأمة الإسلامية والطاعة لرسوله، وأن يكون محققًا لهدف التربية الإسلامية الأساسي وهو إخلاص الطاعة والعبادة لله سبحانه وتعالى.
لقد تطور مفهوم التربية بانتقال ميدان التربية من مرحلة الجهود المبعثرة وغير المنظمة إلى مرحلة الجهود المنظمة التي توضع لها البرامج وتنظم لها المشروعات. وبهذا التطور اتخذت التربية أساليب مختلفة نذكر منها أسلوب القدوة الصالحة نظرًا لأهمية القدوة الصالحة في تربية الفرد وتنشئته على الطريق الصحيح. كما نجد أن الترغيب والترهيب هو أحد أساليب التربية نظرًا لأن أسلوب الثواب والعقاب يجعل الإنسان يتحكم في سلوكه بقدر معرفته بالنتائج الضارة والنافعة التي تترتب على عمله وسلوكه. كما نعلم أن لأسلوب الموعظة الحسنة تأثير جيد في النفوس لأنه يخاطب النفس الإنسانية ويجعل الناصح في نظر المنصوح شخصًا طيب النوايا حريصًا على المصلحة العامة. ويتضح ذلك في أسلوب المعلمين في النصح وتأثيره على نفوس الطلاب. فالمعلم يجب أن يبتعد عن أسلوب الأوامر والنواهي ويستعين بالأسلوب غير المباشر في النصح والتوجيه.
ومن أهم أساليب التربية وأكثرها شيوعا هو أسلوب التشبيه وضرب الأمثال. فهذا لأسلوب يتماشى مع الطبيعة البشرية التي تؤمن بالشيء الملموس والمحسوس الذي يقع في دائرة التجارب ولا يستطاع إنكاره. وهناك التربية بالحوار القرآني والنبوي، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء}.
تكمن أهمية التربية للمجتمع في إيجاد نخبة من العلماء قادرين على إحداث التغيير والتجديد وفقًا لمستجدات العصر وتغير الظروف والأحوال كالتغيير في الأفكار والمفاهيم والسلوكيات المرتبطة بالحياة اليومية لأجل القضاء على السلبيات الاجتماعية بالعودة للآداب الإسلامية والأخلاق الحميدة. فالتربية الإسلامية ليس لها سلبيات لأنها مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. إلا أن علماء شيوعيون مثل كارو ماركوس -مؤسس الشيوعية- اتهموا الدين الإسلامي بالرجعية والقتل بسبب ما شاهده من اضطهاد رجال الدين للعلماء في ذلك العصر وادعائهم بامتلاك صكوك الغفران. والخطأ في هذه المقولة هو أن ماركوس عمم مقولته على الأديان كلها. وهي صحيحة عند رجال الكنيسة في ذلك الوقت فقط. فالدين والتدين عند ماركوس هو قمة القتل والتخلف والاضطهاد.
وكما أن للتربية أهمية في المجتمعات، فإن لها أهمية كبيرة على مستوى الدول والحكومات. فقد أصبحت إستراتيجية قومية لكل شعوب العالم. وذلك أن رقي الشعوب وتقدمها وحضارتها تعتمد على نوعية أفرادها. كما أن التربية عامل مهم في التنمية الاقتصادية للشعوب. فالعنصر البشري أهم ما تملكه أي دولة باعتبار أن التربية دور هام في زيادة الإنتاج القومي، ولها دور فاعل في تنشيط المؤسسات الصناعية والإنتاجية من خلال تطوير المعرفة وأساليب العمل والإنتاج. ولا يخفى على أحد بأن التربية تمثل عاملاً هامًّا في التنمية الاجتماعية كذلك كالقيام بدور المواطنة الصالحة القادرة على تحمل المسؤوليات والقيام بالواجبات. ولذلك يرى التربويون أن للتربية وظيفة تتعلق بنقل الأنماط السلوكية للفرد من المجتمع، وكذلك نقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل بعده. وهي تسعى إلى تنوير الأفكار بالمعلومات الحديثة وإكساب الفرد خبرات مجتمعه.
لم يكن يعلم الآباء والأمهات أنهم كانوا يقومون بدور المعلم حتى ظهرت المدرسة كمنظمة رسمية تشترك مع الأسرة في تولي عملية التربية. وقبل المدرسة الحقيقية التي نعرفها اليوم، كانت القبيلة مدرسة والأسرة مدرسة لكنها لم تكن مدارس منظمة تنظيمًا دقيقًا ولم يكن لديها منهج واضح ومتكامل. ومن سلبيات تلك المدرسة افتقارها إلى وجود حوافز تشجيعية. فبعد أن تعقدت الحياة وتشعبت جوانبها لم تعد حياة البيت كافية لسد حاجات الناشئة. فأوجدت القبيلة الواحدة نوعًا من الناس أطلق عليهم اسم العرافين بحيث تستعين بهم القبيلة على تعليم أبنائها. وكان العرافون يفسرون للأبناء الظواهر الروحية والنفسية والطبيعية.
ولما كان المسجد يقوم بدور نشط في التربية، فقد فكر أعداء الإسلام منذ زمن بعيد في عزل المسجد عن مفهوم التربية ومزاولة النشاط العلمي الذي كان يتم بدخله. فالمسجد في الأصل هو المدرسة حيث كان المسلمون الأوائل يعقدون فيه حلقات العلم والتدريس وتعليم اللغة العربية بالإضافة إلى علوم الفلك وغيرها. من هذا المكان الصغير الطاهر الكبير في رسالته، انطلق العلماء المسلمين في نشر علومهم وتجاربهم حتى ذاع صيتهم في كل بقاع الأرض. فأخذ أعداء الإسلام بالتخطيط للمسجد وعزله عن حياة الناس وذلك بإنشاء المدرسة. فبنيت الكتاتيب في ذلك الوقت كنتيجة للمخططات الغربية. فانصرف الناس عن المسجد بعد أن ضعف المسلمون. ولقد أنشئت أول مدرسة عام 459 هجرية في عهد نظام الملك في بغداد. وكان الهدف من هذا المخطط هو توليد الطبقية وزعزعة الروابط الاجتماعية وتفريق المسلمين وسحب البساط من تحت المسجد الذي كان يشكل القاعدة والنواة الرئيسية التي انطلق منها نور الإسلام للعالم كافة.
لقد استخدم أعداء الإسلام وسيلة المناهج للسيطرة على العالم الإسلامي، ولذلك أوجدوا أو تبنوا فكرة العلوم الشرعية وغير الشرعية، في حين حارب الشيخ ابن تيمية هذه الفكرة واعتبر كل العلوم شرعية. عن طريق المنهج استطاع الغربيون أن يبذروا البذور السيئة حيث ساهمت المناهج في تغيير أفكار الشباب المسلم لعدم وجود مناهج موحدة. فأدت التعددية في المناهج واختلاف مادتها العلمية إلى تناقض علمي واختلاف في الأداء والاتجاهات والمذاهب الإسلامية. ولكن علماء المسلمين ومنهم الشيخ ابن تيمية نادوا بوحدة الهدف وبوحدة الطرق العلمية بحيث تكون هذه الطرق مستمدة من القرآن والسنة.
بقي أن نطرح تساؤلاً حول ما إذا كانت التربية خدمة أم استثمار. مما لا شك أن التربية في زماننا هذا تعد عملية اقتصادية «استثمار». معنى ذلك أن الدولة والأفراد والمجتمع حين ينفقون الأموال على الأجيال الجديدة في دور العلم، فإنه لا بد وأن ينتظرون عائدًا من هذا التعليم وتلك التربية. فعهد التربية كخدمة قد انتهى ولم تعد التربية من قبيل الخدمات التي توفرها الدولة، بل أصبحت من قبيل مؤسسات الإنتاج، بمعنى أن رأس المال الذي يوضع في خدمة التربية له عائد ومردود مثل زراعة قطعة أرض أو إنشاء مصنع. فإذا كانت الدولة أو الفرد تنتظر من ذلك ربحًا ماليًّا فإنها تنظر إلى التربية بنفس النظرة.
ومن الأسباب التي دعت علماء الاقتصاد إلى اعتبار التربية استثمارًا وتوظيفًا لرؤوس الأموال هو أن التربية تزيد من أرباح الأفراد وتيسر لهم كسب عيشهم. ولا سيما أن رؤيتهم للتربية وخاصة التربية المهنية، تقول إنها تزيد من قدرات الأفراد على التكيف مع ظروف العمل فضلا عن كونها تحقق ارتفاعًا في مستوى الحياة الاجتماعية.