د. يوسف بن طراد السعدون
* تضاعف عدد الدول الإسلامية التي تعاني من التدهور في أوضاعها المعيشية.. حيث استمرت 11 دولة إسلامية على حالها كدول أقل نمواًً منذ صدور القائمة الأولى قبل ما يقارب نصف قرن، مع إضافة 10 دول إسلامية أخرى جديدة ليصبح عددها 21 دولة إسلامية تشكل ما نسبته 45 % من إجمالي الدول الأقل نمواًً في العالم.
* معاناة الإنسان في الدول الأقل نمواًً تزداد يوماً بعد آخر بسبب تحديات التنمية مع الانفتاح الاقتصادي العالمي، وفي ظل اشتداد المنافسة بين الشركات الأجنبية الدولية. ومع احتدام شراسة هذه المنافسة والرغبة الجامحة للشركات الأجنبية لتعظيم أرباحها استخدمت كافة السبل ومنها تصدير الفساد والرشوة والحكم غير الرشيد والثورات إلى الدول الأقل نمواًً.
* إن حكومات البلدان الفقيرة ربما تقبل رشوات، ولكن البلدان الغنية هي التي تستضيف الشركات العالمية التي تنفذ أعظم الجرائم.. حيث نجد أن 60 % من الرشاوى التي قدمت لمسؤولين حكوميين بدول أجنبية كانت من الشركات الدولية الكبيرة.
* الشركات الكبرى، عندما تصدم بتطبيق بعض الدول منهاج شفاف عادل لمحاربة الفساد، تعمل على تحريك عملائها من السياسيين والإعلاميين لإثارة قضايا خلافية متعددة في الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحرية الأديان وما شابه، كتهديد وانتقام جراء فقدانها لمواقعها في تلك الدول.
* وحتى لا نأتي بعد عقد من الزمن، ونجد أن عدد الدول الإسلامية المندرج ضمن قائمة الدول الأقل نمواًً قد تضاعف مرة أخرى، قد يكون من المناسب على الأمة الإسلامية اتخاذ حزمة من الإجراءات والأنظمة عبر منظمة التعاون الإسلامي.
لم تتنبه العديد من الدول لضرورة الاهتمام بالتطور والنماء، واستمرت حتى بعد استقلالها متخلفة مقهورة. والأدهى والأمر، إن هذه الدول بدلاً من أن يتناقص عددها بعد الحقبة الاستعمارية تزايد وبنسبة كبيرة، وخصوصاً في العالم الإسلامي. وبيانات الأمم المتحدة عن الدول الأقل نمواًً في العالم، تدل دلالة واضحة على ذلك.. حيث اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1971 أول قائمة لتلك الدول، ضمت 24 دولة من مختلف قارات العالم، وفقاً لمعايير محددة وقياسات لمستويات دخل الفرد. وبعد ما يقارب نصف قرن، وعلى عكس المتوقع، تضاعف عدد الدول الأقل نمواًً ليصبح 47 دولة، في يونيو عام 2018م. ومع شديد الأسف، بمراجعة أسماء الدول التي ضمتها القائمة الجديدة للدول الأقل نمواًً، نلاحظ تضاعف عدد الدول الإسلامية التي تعاني من التدهور في أوضاعها المعيشية.. حيث استمرت 11 دولة إسلامية على حالها كدول أقل نمواًً منذ صدور القائمة الأولى، مع إضافة 10 دول إسلامية أخرى جديدة ليصبح عددها 21 دولة إسلامية، تشكل ما نسبته 45 % من إجمالي الدول الأقل نمواًً في العالم.
ومعاناة الإنسان في الدول الأقل نمواً حاضرة يوميا بكل أوجه الحياة المعيشية من فقر ومجاعات وانتشار للأوبئة والجهل والأمية والبطالة المرتفعة، على الرغم من توفر الكثير من الثروات والموارد في أوطانهم. وتزداد هذه المعاناة يوماً بعد آخر بسبب تحديات التنمية مع الانفتاح الاقتصادي العالمي، والمساعي الدائمة للدول الغربية الاستعمارية لنهب والسيطرة على الثروات عبر إثارة القلاقل وعدم الاستقرار وتحريك جيوشها أو مرتزقتها بالنيابة عن شركاتها لتحقيق المكاسب الاقتصادية، كما يحدث حالياً في ليبيا وغيرها من الدول الإسلامية.
ومع احتدام شراسة هذه المنافسة والرغبة الجامحة للشركات الأجنبية لتعظيم أرباحها، استخدمت كافة السبل ومنها تصدير الفساد والرشوة والحكم غير الرشيد والثورات والانقلابات إلى الدول الأقل نمواً، مما أدى إلى استمرار وتزايد معاناة الإنسان بتلك الدول.
فقد أكد ذلك الاقتصادي الأمريكي البروفيسور جيفري دي. ساكس (Jeffrey Sachs)، في مقاله «الاقتصاد العالمي وموجة جرائم الشركات» المنشور في (Project-Syndicate) بتاريخ 30 إبريل 2011م، مفيداً بأن العالم أصبح غارقاً في احتيال الشركات، ولعل المشكلات أشد خطورة في البلدان الغنية تلك التي من المفترض أنها تتمتع بالحكم الرشيد. والواقع أن حكومات البلدان الفقيرة ربما تقبل رشوات، ولكن البلدان الغنية هي التي تستضيف الشركات العالمية التي تنفذ أعظم الجرائم. وأنه قد أفلت زمام الفساد المؤسسي لسببين رئيسيين. الأول أن الشركات الكبرى تتمتع بالقوة العاتية من الناحية المالية إلى حد تخشى معه الحكومات أن تتعرض لها بأي سوء. والسبب الثاني أن الشركات تلعب دور الممول الرئيس للحملات الانتخابية؛ وقد يكون الساسة شركاء في ملكية هذه الشركات في كثير من الأحيان. والواقع أن ما يقرب من نصف أعضاء الكونجرس الأمريكي من أصحاب الملايين، ويرتبط عديد منهم بصلات قوية بالشركات حتى قبل وصولهم إلى الكونجرس.
كما استعرض بوضوح هذا الأمر تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عن الرشوة الأجنبية الصادر عام 2014 (OECD Foreign Bribery Report: An Analysis of the crime of bribery of foreign public officials). فوفقاً لبيانات التقرير تكلف الرشوات كل عام ما يقارب 2.6 تريليون دولار، أو ما نسبته 5 % من إجمالي الناتج المحلي العالمي، أكثر من 80 % منها ذهبت إلى مسؤولين أجانب حكوميين على مختلف المستويات من رؤساء دول أو رؤساء وزراء وأسرهم أو وزراء أو مسؤولين في المؤسسات العامة أو الشركات المملوكة للدول الأجنبية. والملاحظ أن 60 % من تلك الرشوات قدمتها الشركات الدولية الكبيرة عبر وسطائها كشركاتها الفرعية أو المكاتب الاستشارية، وثلثيها كان في سبيل الفوز بعقود الامتيازات أو المناقصات بقطاعات التنقيب والإنشاءات والنقل والتخزين والاتصالات والمعلومات في الدول الأجنبية. كما أظهر التقرير أن 50 % من الرشاوى المقدمة أتت من الدول ذات المستويات المرتفعة والمرتفعة جداً بمؤشرات التنمية البشرية (الدول المتقدمة). وأدت تلك الرشوات إلى خسائر كبيرة لاقتصادات الدول الأجنبية، حيث إنها رفعت كثيراً في تكاليف المشروعات المنفذة، فقد كانت تساوي بالمتوسط أكثر من 10 % من إجمالي قيمة العقود والامتيازات التي تمت ترسيتها على تلك الشركات.
وهذا يفسر لنا بوضوح سبب الحملات السياسية والاجتماعية المغرضة التي يثيرها إعلام الدول الغربية ضد قيادات وحكومات الدول الإسلامية التي اتخذت خطوات حاسمة وملموسة لمحاربة الفساد سعياً لنماء دولها، كالمملكة العربية السعودية. فالشركات الكبرى، عندما تصدم بتطبيق بعض الدول لمنهاج شفاف عادل لمحاربة الفساد، تعمل على تحريك عملائها من السياسيين والإعلاميين لإثارة قضايا خلافية متعددة في الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحرية الأديان وما شابه، كتهديد وانتقام جراء فقدانها لمواقعها في تلك الدول.
وحتى لا نأتي بعد عقد من الزمن، ونجد أن عدد الدول الإسلامية المندرج ضمن قائمة الدول الأقل نمواً قد تضاعف مرة أخرى، من الواجب أولاً على الأمة الإسلامية إدراك المدلولات السامية لقول الله -عز وجل- في محكم كتابه بسورة الرعد، الآية 11: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}.. وعلى الدول الإسلامية النظر في التالي:
1- استذكار بأن الله أعز هذه الأمة بالإسلام، والحضارة التي بناها المسلمون الأوائل في مشارق الأرض ومغاربها وقدمت أروع الأمثلة في العلم والبناء لخدمة الإنسانية، لم تأت من فراغ، بل كان منبعها الإيمان بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، التي تمثل الأخلاق جوهره وأساسه. ومصداقية ذلك قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177) سورة البقرة. فالمولى -عز وجل- دعا إلى مكارم الأخلاق وجعلها أسمى غايات رسالة الإسلام.. فالرسول محمد عليه الصلاة والسلام قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». هذا المنهاج الإسلامي القويم في الحياة والعمل غفل عنه العديد من أبناء الأمة الإسلامية في وقتنا الراهن. مما يستدعي من المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية بالعالم الإسلامي أن توليه أهمية كبرى الآن وتعمل على نشره وترسيخه في المجتمعات الإسلامية ضمن خطابها الديني الإصلاحي.
2- إن تكلف منظمة التعاون الإسلامي نخبة مختارة من علماء الدين والحقوقيين الإسلاميين لبلورة مدونة شاملة للأخلاق والسلوك استنادا إلى ما ورد بتعاليم الإسلام في الكتاب والسنة. والبناء على هذه المدونة لصياغة معاهدة ملزمة بإجراءات فاعلة لمكافحة الفساد والرشوة تبرمها الدول الأعضاء بالمنظمة.
3- تأسيس هيئة ضمن أجهزة منظمة التعاون الإسلامي تعني بمتابعة تطبيق التزامات المعاهدة المبرمة، على أن تقوم بإصدار تقارير سنوية عن الأوضاع بالدول الإسلامية متضمنة قوائم وبيانات عن الشركات التي قدمت أو حاولت تقديم رشوات في أي من الدول الإسلامية. على أن تعرض هذه التقارير على المؤتمر السنوي لوزراء الخارجية أو على القمم الإسلامية لاعتماد إدراج الشركات المدانة ضمن قائمة الشركات المقاطعة من العمل والاستثمار في أي من الدول الأعضاء.
4- أن تقوم الهيئة المشار إليها، بحصر المناقصات والامتيازات التي حصلت عليها الشركات الأجنبية بالدول الإسلامية بطرق ملتوية فاسدة، وتقدير حجم الخسائر المترتبة على ذلك. وعليها تنسيق ودعم جهود الدول المتضررة لرفع القضايا في المحاكم الدولية المختصة والمطالبة بدفع الشركات المدانة التعويضات المناسبة لشعوب تلك الدول.
5- أن يسعى البنك الإسلامي للتنمية إلى تأسيس شركات رائدة في قطاعات التنقيب والإنشاءات والنقل والاتصالات تمارس أنشطتها بالدول الإسلامية، وتدار بشكل تجاري ويشارك القطاع الخاص الإسلامي في نصف رأس المال. مع أهمية دعم تلك الشركات من خلال توليها حصرياً تنفيذ المشروعات التي تنشدها المساعدات والقروض التنموية المقدمة من الدول الإسلامية الثرية للدول الإسلامية الأخرى، بدلاً من ذهاب تلك الأموال إلى خزائن الشركات الأجنبية عبر المناقصات الفاسدة التي قد تتم.
والله ولي التوفيق،،،