يسهم البحث العلمي في دفع عجلة التنمية للمجتمعات الإنسانية في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها، ويحتاج البحث العلمي إلى توجيهه بما يحقق متطلبات المجتمع وآماله، وبما يسهم في التقدم والازدهار.
ومن أهم أدوار البحث التربوي استشراف المستقبل، وقد أكدت المؤتمرات على ضرورة الاهتمام بتطوير الدراسات المستقبلية، ونشر ثقافة استشراف المستقبل كما ورد في توصيات المؤتمر العربي لتطوير البحث العلمي، الذي عقد في الأردن في الفترة من 25-27 أكتوبر 2015، ومؤتمر استشراف مستقبل التعليم في الوطن العربي المنعقد في الخرطوم من 3-4 أبريل 2017م. كما أوصت ندوة الدراسات المستقبلية في الوطن العربي: الحال والمآل، المقامة في تونس 22-24 سبتمبر 2014م، بأهمية إعادة تأهيل القوة البحثية العربية باتجاه أنماط البحث والتفكير المستقبلي، ودمج ثقافة الدراسات المستقبلية في المناهج والمقررات الدراسية في الجامعات والمعاهد العربية.
وعلى الرغم من أهمية الدراسات المستقبلية التربوية، فقد خلصت بعض الدراسات إلى وجود ضعف في الاهتمام بالدراسات المستقبلية في المجال التربوي خصوصاً، على سبيل المثال، توصلت إحداها إلى أن الدراسات المستقبلية مع الدراسات المقارنة لا تشكل سوى 1 % من إجمالي الدراسات في التربية الإسلامية بالجامعات المصرية ما بين عام 1991م حتى النصف الأول من عام 2007م.(1) وأظهرت دراسة أخرى ضعف الإنتاجية العربية في مجال الدراسات المستقبلية التربوية بشكل عام، حيث لم يقدم خلال الثلاثين سنة الماضية سوى (45) بحثًا تربويًّا في هذا المجال في المجلات (عينة الدراسة)، وهي المجلات العلمية المحكمة المتعلقة بالبحوث التربوية الصادرة في البلدان العربية من عام 1980 حتى عام 2014م.(2) وكشفت نتائج دراسة محلية أن مدخل الدراسات المستقبلية هو واحد من أقل المداخل البحثية المستخدمة من قبل الباحثين في أصول التربية في جامعة الملك سعود، حيث لم يمثل مع مدخل دراسة الحالة سوى نسبة (0.9%) من إجمالي مفردات عينة الدراسة، بمعنى رسالة واحدة لكل مدخل.(3) ومن الملاحظ كذلك قلة المقررات الخاصة بالدراسات المستقبلية في بعض كليات التربية بالجامعات السعودية، فبمراجعة الخطط الدراسية لبرامج الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) في كلية التربية بجامعة الإمام وجامعة الملك سعود على سبيل المثال، نجد أنه لا يوجد في برامج الماجستير والدكتوراه في كلتا الجامعتين أي مقرر دراسي يتناول الدراسات المستقبلية، ما عدا مقرر (التربية ودراسة المستقبل)، في برنامج دكتوراه أصول التربية بجامعة الإمام. ونجد كذلك قلة الوحدات التي تستهدف تنمية مهارات البحث المستقبلي في مقررات مناهج البحث التربوي المتقدم في برامج الدكتوراه، التي تقدر على سبيل المثال في أحد برامج الدكتوراه بست ساعات فقط في المقرر كاملاً، تحت عنوان (تطبيقات لبحوث مستقبلية).
إن قلة استخدام الباحثين لمدخل الدراسات المستقبلية في البحوث التربوية يؤكد وجود عدد من العوامل التي قد تقف عائقاً أمام الباحثين. وقد أشارت بعض الدراسات إلى مجموعة من تلك المعوقات، منها: الإجراءات المعقدة للحصول على تمويل بحثي، وقلة مساهمة القطاع الخاص في دعم الخطط البحثية للدراسات المستقبلية في التربية، وحاجة بعض البحوث المستقبلية التربوية إلى تعاون جهات عديدة لتمويلها، وضعف الطلب الاقتصادي الحقيقي على منتجات البحث العلمي المستقبلي في القطاعات الحكومية والخاصة. بالإضافة إلى مجموعة من المعوقات الأكاديمية، كاهتمام الباحثين بالبحث عن الحلول للمشكلات الحالية التي يعاني منها الواقع أكثر من المستقبل، والافتقار إلى كثير من معايير إجراء الدراسات المستقبلية، وضعف تدريب الباحثين على إجراء دراسات مستقبلية، وقلة الخبراء المتخصصين في مجال دراسة المستقبل، وقصور تطبيق خطة بحثية تربوية للبحوث العلمية المستقبلية على مستوى الكليات، بالإضافة إلى كثرة التعقيدات البيروقراطية للحصول على بعض البيانات والإحصاءات الدقيقة، وقلة المراكز والوحدات البحثية بالجامعة لدعم الباحثين في الدراسات المستقبلية، وقلة المجلات العلمية المتخصصة في الدراسات المستقبلية، وضعف قنوات الاتصال بمراكز بحثية خارجية مهتمة بمجال الدراسات المستقبلية التربوية، مع ندرة الحوافز المشجعة.
ومن المقترحات التي قد تسهم في تفعيل مدخل الدراسات المستقبلية في الأبحاث العلمية؛ إيجاد قنوات اتصال بين الباحثين في الجامعة وصانعي السياسة التربوية والجهات المستفيدة من نتائج الدراسات المستقبلية، مع بناء علاقات مع المنظمات العالمية والعربية للاستفادة مما تقدمه لدعم الدراسات المستقبلية، وتشجيع القطاع الخاص على المشاركة في التمويل، وتأسيس وحدات للدراسات المستقبلية في الجامعات تتبنى شراكات مع مؤسسات المجتمع المدني، واستقطاب كفاءات بحثية مميزة مهتمة بالدراسات المستقبلية في الكليات التربوية.
مع توفر بيئة مناسبة ومشجعة على البحث في دراسات علوم المستقبل من خلال اعتماد حوافز ومكافآت مالية ومعنوية، والتركيز على العمل الجماعي المشترك من خلال البحوث المشتركة والفرق البحثية، ودعم تسهيل ونشر نتائج الدراسات المستقبلية التربوية بصورة دورية حتى يستفيد منها الباحثون الجدد والجهات التنفيذية والتخطيطية في المملكة.
مع أهمية إدراج أساليب دراسات المستقبل ضمن مفردات مقرر مناهج البحث التربوي في مرحلة الماجستير، وإفراده بمقرر كامل في خطط برامج الدكتوراه بكليات التربية. إذ أشارت الكثير من المراجع العلمية إلى أن درجة النجاح في التصور المستقبلي في مجال ما يعتمد بشكل أساسي على مهارة الباحث في تحديد أنماط وأساليب الدراسات المستقبلية المناسبة، وعلى استخلاص البيانات الكمية والكيفية، وعلى قدرته على توظيف ذلك.
** ** **
- (1) حازم أبو الفضل. (2009). توجهات بحوث التربية الإسلامية بالجامعات المصرية. رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الأزهر: القاهرة.
- (2) محمد الذبياني. (2017م). دراسات المستقبل: أسسها الفلسفية واستخداماتها بالبحوث التربوية في البلدان العربية. مجلة دراسات العلوم التربوية: الجامعة الأردنية - عمادة البحث العلمي.
- (3) مجدي السبيعي (2012م). اتجاهات البحث التربوي في رسائل الماجستير والدكتوراه في أصول التربية بجامعة الملك سعود. رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الملك سعود: الرياض.