د. جاسر الحربش
قاطرة الوطن متاحة للجميع، ولا منطق في وجود من يفضل البقاء على الرصيف بينما يغادر الآخرون نحو المستقبل، لكن التوقعات حول سرعة القاطرة وكمية ونوع الأمتعة التي يلزم شحنها للمستقبل أو يستغنى عنها، ذلك هو ما تختلف فيه المفاهيم حول ما هو تنمية وما هو مغامرة، علماً أن المستقبل لا يتحقق بدون المغامرات المحسوبة بناءً على المعطيات والإمكانات المتوفرة.
نحن مثل كل مجتمع سبقنا واستيقظ على حقيقة أنه تخلف كثيراً عن العالم في التقنية وصناعة القوة فأصبح مهدداً في بقائه، وجدنا بداخلنا ثلاث عقليات لها مفاهيمها الخاصة عن السرعة المطلوبة لقاطرة التنمية واختيار الأمتعة الضرورية للرحلة. لا أملك معرفة بالنسب التقريبية الخاصة بنا لكل مجموعة، ولكن بالمجمل لدينا الراغبون في السرعة البطيئة مع اصطحاب أكثر إن لم يكن كامل المتاع القديم، ولدينا المتحمسون للانطلاق بدون كوابح ولو على حساب التنازل عن أكثر إن لم يكن عن كل متاعنا القديم، ولدينا بالتأكيد الفئة الأهم من المطالبين بالمزاوجة بين الانطلاق بالسرعة الضرورية مع شحن ما نحتاجه معنوياً وروحياً ومادياً من أثاثنا القديم، وهؤلاء يشكلون فئة الوسط التي كانت في كل المجتمعات عبر التاريخ تحفظ الأمم من انهزامية البطيء المتشكك ومن مفاجآت المغامر المتسرع، وتربط الماضي بالمستقبل.
بهذا المفهوم علينا استجواب أولاً الفئة ذات المزاج البطيء عن تقديرها للسرعة المطلوبة للتنمية وعن المتاع الذي تعتقده ضرورياً للرحلة. منطقياً سوف نكتشف أنها تفضل من الحركة تلك التي لا تفارق بها مميزاتها القديمة وما كانت تحصل عليه من الاسترخاء والتسلط الاجتماعي، وما يتوافق من التعليم مع مفاهيمها عن الحياة والحريات الشخصية والتطويع القسري وتصنيف الصالح والطالح والقبلي وغير القبلي إلى آخره. واضح أن هذه الاشتراطات من هذه الفئة تعني الرغبة في البقاء في الزمان والمكان، ومن غير الممكن مجاملتها في الانتفاعية والاتكالية.
على النقيض من المكون الارتخائي المتكاسل داخل بنيتنا الاجتماعية لدينا تلك الفئة قليلة العدد شديدة الضجيج التي فقدت الصلة المعرفية بالماضي وتفضل التحرك بسرعة ولو بالملابس الداخلية لعدم اقتناعها بوجود ما يستحق التمسك به من الموروث والمنقول الذي بدونه يصبح المجتمع لا هوية ولا تعريف له. هذه الفئة الشبابية بالمجمل تحمل بداخلها تصورات مشوهة عما هو التطور المتوازن وما هو التراث والموروث الروحي والجمالي الذي لا غنى عنه، والسبب يعود بالتأكيد للأربعين سنة من الحروب وتسييس الدين التي أسدلت ستاراً كثيفاً بين الحاضر والماضي المتسامح المتفائل بما كانت تعد به الخطوات البسيطة آنذاك رغم الإمكانيات المتواضعة. واضح أيضاً أن هذه الفئة المتسرعة لا تخدم مشروع التنمية والتطوير الموعود ولا يمكن مجاملتها في الانخلاع عن الجذور والجري عرايا متسولين بين الحضارات.
هكذا نبقى مع فئة الوسط التي لا تريد لقاطرة التنمية الخروج عن القضبان عند المنعطفات ومفاجآت الطريق ولا تتنازل عن جوهرها الأخلاقي واللغوي وموروثها المتنوع في الشعر والغناء والرقص والألعاب والملابس والألوان. فئة الوسط هذه هي التي انفتحت منذ البدايات الأولى قبل فترة التزمت الأربعيني على التطور العلمي بشروطه، وهي التي أمنت للمجتمع إمكانيات العبور من فتن واضطرابات الأربعين سنة الماضية إلى مرحلة قاطرة التنمية الحالية لنقل كل الفئات نحو المستقبل.