الأجهزة الذكية بأنواعها هي من مخرجات العصر الحالي الذي نعيشه، كما أنها نتاج للتقدم العلمي والتكنولوجي، وهي إنما أوجدت لخدمة العالم وتواصلهم مع غيرهم، وقضاء حاجاتهم وتحقيق منافعهم وتسهيل كثير من إجراءاتهم ومهامهم الرسمية والشخصية، والملاحظ أن كثيراً من أطفالنا يقضون بصحبتها الوقت الكثير؛ الأمر الذي انعكس سلباً على أفكارهم (وهو الجانب المعرفي) ومشاعرهم (وهي الجانب الوجداني والانفعالي) وتصرفاتهم (وهي الجانب السلوكي)، ومعلوم أنه من الطبيعي أن ما يعتمل في فكر الإنسان ينعكس على عواطفه وانفعالاته ومن ثم على سلوكياته وتصرفاته.
ومن هذه الأفكار والمشاعر والسلوكيات - والتي نحن سبب من أسباب اكتساب أطفالنا ومراهقينا لها - التمرد والعقوق والعصيان واتخاذ مواقف عدائية تجاه من يحيط بهم أو حتى نحو المجتمع بأسره، ومحاولة كسر قيوده وضوابطه، وذلك بسبب إهمالنا لهم وتركهم ضحية لها وقضاء أوقات طويلة معها دون شعور أو إحساس من قبلنا بخطورة ذلك.
ومما يثير الانتباه أن هذا الأمر لم يقتصر على الأبناء فقط وإنما حتى الفتيات واللاتي بدأنا نلاحظ في الأشهر والأيام القليلة الماضية انتشار حالات الهروب والانسحاب من الأسرة بل والمجتمع والعصيان من قبل بعضهن، وكذلك التمرد على من يتولى أمرهن.
وكقراءة نفسية نبحر من خلالها في شخصيات أبنائنا وبناتنا لو تأملنا في أسباب تلك المشاعر السلبية والمواقف والتصرفات العدوانية من قبل هؤلاء الأبناء والبنات لوجدنا أن أهمها : تنشئتهم غير السليمة، وأسلوبنا غير المباشر في عزلهم عن الوسط الأسري والاجتماعي والمتمثل في تركهم يقضون أوقاتاً طويلة بمعية هذه الأجهزة، وما يشاهدونه فيها من مواد إعلامية ومسلسلات تحتوي على أطروحات حول الحرية الفردية والاستقلالية، وكذلك أفكار ومواقف تثير انفعالاتهم وعدوانيتهم لمن حولهم، الأمر الذي أفقدهم في نهاية المطاف استقلاليتهم نتيجة وقوعهم أسرى لهذه الأجهزة، لتصبح هي بيئتهم ووسطهم الاجتماعي الذي يتربون في أحضانه، هذا بالإضافة إلى أصدقاء وصديقات السوء الذين يتعلمون منهم السلوكيات الإجرامية والاعتداء، فالسلوك الإجرامي من الممكن تعلمه عن طريق الاختلاط بأشخاص منحرفين يزينون لهم سلوك الانحراف للتخلص من الضغوط الأسرية والتسلط من قبل الوالدين إن وجد، فضلاً عن التفكك الأسري ومعاناة بعض الأبناء والفتيات من الإهمال وفقدان الرعاية الأسرية، وعدم إشباع الحاجة إلى العطف والحنان وما يولده من شعور بالفراغ النفسي والعاطفي لدى الأبناء.
وعلى الرغم من أن عملية المحافظة على سلامة الأبناء من الوقوع فريسة لهذه الأجهزة الذكية وما يعتريها من خطورة مهمة صعبة نسبياً، إلا أن الواقع يقول إن الأسرة لم تقم بدورها الأمثل والمطلوب منها - خصوصاً الوالدين - في تربية الأبناء والبنات منذ نعومة أظفارهم، واتخاذ السبل الوقائية التي من شأنها أن تجنبهم - بإذن الله - الإصابة بمثل هذه الاضطرابات النفسية والاتسام بالشخصيات السلبية المضادة للأسرة بشكل خاص والمجتمع على وجه العموم، وذلك من الظهور أمامهم كنماذج وقدوات حسنة في التعامل والتصرف والتعاطي مع هذه الأجهزة، (فالطفل لن يستخدم هذه الأجهزة بتوازن واعتدال وهو يرى أحد والديه مدمناً على استخدامها) هذا من جانب.. ومن جانب آخر عدم التجاوب والتفاعل والتواصل معهم والظهور في حياتهم ومشاركتهم في اختيار ميولهم واتجاهاتهم وأنشطتهم وآرائهم وأفكارهم حول أسلوب حياتهم، ومن ناحية أخرى يجب على الآباء والأمهات الاعتناء بالتنشئة الأسرية السليمة، والتي تمثل أحد الكوابح المهمة التي تصرف الابن والفتاة عن طريق الانحراف، وكذلك اقتراب الأم من ابنتها برفق، وجمعها بين اللين والحزم مع المتابعة بطريق غير مباشر - فغالباً ما تكون الأمهات العاملات بالذات مقصرات في هذه الناحية نظراً لابتعادهن عن بناتهن فترات طويلة، كما ينبغي مراعاة التركيبة النفسية والهرمونية للفتاة، وغرس الوازع الديني لديها، وقبولها كما هي وليس كما يرغب الوالدان.
فلو عمل كل والد أو والدة على بناء ومد جسر التواصل والتفاعل المعرفي والوجداني والسلوكي مع هؤلاء الأبناء والبنات وقبل ذلك استحضار واستشعار الأجر من الله في تربيتهم وتهذيب سلوكياتهم والدعاء لهم، ومساعدتهم والمساهمة معهم في إصلاح أنفسهم لما وصلوا إلى هذا المستوى المتدهور من السلوك والشخصية.
** **
أستاذ علم النفس المساعد ورئيس قسم علم النفس بكلية التربية - جامعة شقراء
email:oma_sha@hotmail.com