د. أحمد الفراج
نواصل الحديث عن الوضع الحالي لأمريكا، حيث الانقسام الحاد، بين المحافظين الذين يتزعمهم الرئيس ترمب، والوسط واليسار الليبرالي، الذي يمثل الخط الايدولوجي المضاد، والمدعوم من معظم النخب ومن الإعلام، وحيث الصراع مع معظم القوى الدولية، بما في ذلك الحلفاء، وهو ما أنتج الانكفاء والعزلة، ومهّد لصعود قوى جديدة، تطمح في وراثة، أو على الأقل مشاركة المارد الأمريكي في السيطرة على العالم، ورغم أن المفكر، برنارد ليفي، تحدث عن الامبراطوريات التي تتأهب لزعامة العالم، إلا أنني أشرت في مقال سابق إلى أن ليفي أراد أن يرسل تحذيرًا للغرب، ولأمريكا تحديدًا، نتيجة لحالة الانقسام الحالية التي تشهدها، ومثلما أنني أرى استبعاد فكرة سقوط أمريكا كقوة عظمى في القريب المنظور، إلا أن هذا لا يعني حصانتها المطلقة من الضعف، الذي يثبت التاريخ أنه يعتري الأمم، متى ما توفرت الظروف الحتمية لذلك.
هناك من يرى بأن الرئيس ترمب لا يحترم المؤسسات الفيدرالية، ويستشهدون على ذلك بعزله لكثير من أركان إدارته، الذين لا يتفقون معه في رؤيته، مثل عزل مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، ووزير الخارجية، ريكس تيلرسون، ومستشار الأمن القومي، وآخرهم مركز الثقل في الإدارة، وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس، وكذلك عدم ثقة الرئيس بأجهزته الأمنية، أو بالأصح تجاهل تقاريرها، وآخر مثال على ذلك كان تعارض رؤيته مع رؤية بعض أجهزة الاستخبارات بشأن كوريا الشمالية، وغني عن القول إن انتهاك المؤسسات الفيدرالية يؤدي إلى ضعف ثقة الشعب بها، وهذا أمر عواقبه وخيمة، لأن أمريكا امبراطورية تتكون من 50 ولاية، وتعتبر قوة المؤسسات الفيدرالية شرط ضرورة لتماسك هذا الاتحاد الضخم، ومتى ما ضعفت هذه المؤسسات، فإنه من الممكن أن يؤدي ذلك إلى نشوء تحالفات بين بعض الولايات، تبنى على المصالح والايدولوجيا، وهو أمر له جذور تاريخية.
في أمريكا اليوم، هناك ما يطلق عليها الولايات الحمراء، وهي ولايات الجنوب الجمهورية، التي تشمل كنتاكي وجورجيا والاباما وميسيسيبي وغيرها، وهي ولايات محافظة تاريخيا، وسبق أن انفصلت عن أمريكا، بعد أن رفضت تحرير السود، ونتج عن ذلك حرب أهلية، كما أنها عارضت قانون الحقوق المدنية، الذي يفرض المساواة بين السود والبيض، وقامت بسبب ذلك أعمال عنف مشهودة، وهذه الولايات تصوت للمرشح الجمهوري أياً كان، كما أن هناك الولايات الزرقاء الليبرالية، التي تصوت للمرشح الديمقراطي أياً كان، مثل ولايات نيويورك وكاليفورنيا واوريجون وغيرها، وفي حال ضعفت ثقة الشعب بالمؤسسات الفيدرالية، الضامن الأكبر لتماسك الاتحاد الأمريكي، فإن تعزيز تحالف الولايات الزرقاء من جهة، والولايات الحمراء من جهة أخرى، قد يكون أهم لدى شعوب هذه الولايات من تماسك الاتحاد الأمريكي ذاته، وهذا مؤشر خطر بلا شك، وسيتواصل الحديث!