د.عبد الرحمن الحبيب
عندما أعلن جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني استقالته المفاجئة وتراجع عنها سريعاً, جعلته محط أنظار العالم لغرابة التصرّف، لا سيما أنه اختار زماناً وموقعاً غير متوقعين.. فالتوقيت أتى بأسوأ ظروف اقتصادية وسياسية تمر بها إيران، ورأى البعض أنه يهرب من سفينة ستغرق.. أما المكان بموقع إنستغرام في آخر الليل، فمجازفة لأن أغلب وسائل التواصل الاجتماعي محظورة على الإيرانيين العاديين، فكيف بأحد أعمدة النظام يقدم بها استقالته! إنما يبدو أن هذا غرضه الذي نجح به.. لكنه نجاح مرحلي حتى يظهر أحد احتمالين متناقضين: بداية نهايته أم انطلاقة جديدة..
فهل نحن أمام مسرحية أم مناورة.. إن كانت الأخيرة فإن اختياره للزمان والمكان أخذ بالاعتبار الاستهلاك المحلي من أجل الضغط من أسفل إلى الأعلى، حيث تدافع حلفاؤه ومعجبوه للذود عنه.. إنها سياسة حافة الهاوية أو «الصرخة المرتعشة» كما وصفته صحيفة «ابتكار» الإصلاحية الإيرانية. وحتى هذه اللحظة فإن استدرار العطف أثمر برفض الرئيس روحاني الاستقالة، أو على نحو أدق، اقتناع خامنئي (الرئيس الفعلي) بأن النظام لا يمكنه الاستغناء عنه، ولو مؤقتاً..
إيران دولة ثيوقراطية يحكمها الولي الفقيه صاحب القول الفصل وقد يحتفظ بظريف، لكن إلى أي مدى.. فعاقبة أسلافه ماثلة أمام ناظريه.. يقول علي هاشم المختص بالشؤون الإيرانية (بي بي سي): «ظريف يدرك جيداً أن المعارك في إيران تخاض على دفعات، وإذا كان فاز في هذه الجولة، فهو معرّض لما قد لا يتحسب له في جولات قادمة.» أما الخبيرة سوزان مالوني (معهد بروكينغز) فتقول «نجحت المناورة.. إلا أنها تستدرك: «إذا كانت مسرحية ظريف قد آتت ثمارها، وعاد إلى مهامه مبتسماً.. فالقلق العميق بين المؤسسة السياسية بشأن مسار البلد المستقبلي لا يزال طازجاً، ويبدو أن احتمالات التأهيل الدبلوماسي لظريف التي أهلته للتقدم عام 2013، عندما تم اختياره لقيادة وزارة الخارجية، أقل أملاً من أي وقت مضى.»
هل تمثّل طريقة ظريف خروجاً ناعماً على طريقة نظامه أم أنها جزء من ازدواجية السياسة الخارجية للنظام الإيراني التي تترنّح بين نظام ثوري خارج عن المنظومة الدولية وآخر يحاول غير جاد الاندماج معها، أم لعبة هذا النظام الذي اعتاد على استخدام خطابات مزدوجة للخارج، يقول الشيء ونقيضه؟ الخطاب المزدوج لإيران يظهر بلغة ناعمة مهادنة للغرب من ظريف وأمثاله مقابل لغة خشنة معادية من قبل قاسم سليماني وأمثاله.. وخطاب هذا الأخير هو الفاعل على أرض الواقع.. إنه فريق واحد يقوده خامنئي.
«تظل هراوة قائد الفرقة ثابتة في قبضة خامنئي المزعجة،» على حد تعبير مالوني؛ التي تقول «لطالما كانت الانقسامات حول الأيديولوجية والإستراتيجية موجودة في طهران، لكن أولئك أمثال ظريف وسليماني، كرسوا حياتهم ومهنهم للدولة الثورية، كانوا دائماً مرتبطين بالتزام مشترك للحفاظ عليها. الصراع الداخلي في المؤسسة يتعلّق بأساليب إيران وليس بالأهداف. «ظريف ربما كان جذاباً وفعّالاّ جداً مع الجماهير الغربية، لكنه لم يفعل أي شيء في حياته المهنية يجعله على خلاف مع ترسيخ نظام استبدادي جداً في إيران أو أظهر أي طريقة توضح معارضة للسياسات الإيرانية عبر المنطقة..»
يذكر مارك دوبويتز (رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات)، أن ظريف يعد «كبير مندوبي المبيعات الذين باعوا الرواية الخيالية للغرب بأن خطة العمل المشتركة (الاسم الرسمي للاتفاق النووي الإيراني) تقطع كل الطرق عن الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية العابرة للقارات.. سيكون للمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي الحكمة بالحفاظ على هذا الرواية..». فظريف يسعى لخلق رواية غير واقعية لإيران، وإن كان يقدم تنازلات للخارج فهي شكلية لينتزع مشروعية لنظامه المعزول دولياً.
إلا أن ثمة متعصبين داخل إيران لا يتحملون حتى لغة ظريف ولا يطيقون لها صبراً، ورحبوا باستقالته، مقتنعين بأنه موال للغرب، «مبتلى بالثقافة الغربية» إن لم يكن عميلاً للغرب، وما الاتفاق النووي بنظرهم إلا مؤامرة يقودها ظريف وفريقه ضد إيران.. فقد نقل موقع «عصر إيران» عن النائب السابق بمجلس الشورى، حميد رسائي، قوله منتقداً ظريف: «إنه قضى سنين طويلة منذ مرحلة الثانوية في الولايات المتحدة، ووقَّع على اتفاقيات مخزية منها الاتفاق النووي، لكنه يأتي الآن ويقدم استقالته تزامناً مع زيارة محور المقاومة..». وطالب رسائي السلطات القضائية بمنع ظريف من السفر والتحقيق بدوره في فرض عقوبات جديدة على إيران، والعناصر الجاسوسية في فريقه.
هل تحسَّن موقف ظريف؟ قيمة ظريف أصبحت رمزية وربما مؤقتة، وإذا كان السبب الظاهري لاستقالته هو غضبه من استبعاده عن اجتماع مع بشار الأسد، ورغبته باحترام مؤسسته المعنية بالشؤون الخارجية، إلا أن هيكلية النظام الإيراني قد تهمشه، حتى لو احتفظ بمنصبه.. فكل ما يظهر حالياً من النظام الإيراني هو مزيد من التعنت تجاه المجتمع الدولي، يتم بمباركة ظريف، وليس رغماً عنه.. فظريف مجرد خادم مطيع لهذا النظام وإن اختلف أسلوبه؛ أما «ما هو مهم بالنسبة لعامة الناس في إيران فهو كيف ومتى ستأتي التغييرات الحقيقية ويستطيع الإيرانيون أن يعيشوا حياة طبيعية.» حسب تعبير الصحفية الإيرانية كاميليا انتخابي (سي إن إن)..