عمرو أبوالعطا
بداخل كل منا هناك شخصية كاتب، وإن كنت لا تحب الكتابة سترغب في وقت ما أن تمسك قلمك وتخط بعض الكلمات، كما للإنسان روح تحدثه، فللورقة روح تتحدث بواسطة القلم، نشعر أحياناً بالفضول بأن نكتب دون تجهيز أيّ فكرة، مثلا نستعير من الصمت لحن أغنية ما يدندنها القلب شجناً متطرفاً مع جمهور حواسه النائمة، أو نسرق من بعثرة الضجيج كلمة تلد في أوراق عقيمة قصيدة دافئة، أوراق لا نعرف أين سيكون مصيرها الأخير حين ننتهي من خواطر الحنين، ربما تكون رسالة شوق يحملها زاجل الحنين لمن أحبّ أو ربما تكون قصة نواسي بها دموع حين يدق جرس الوحدة في غرفة الروح المعتمة من نور المسافرين لعالم الخلود، لكن في آخر المطاف، تبقى الكتابة رئة ثالثة، نتنفس من خلالها هواء الراحة الذي نفقده في لحظة بائسة.
من أكثر الأمور التي قد نلجأ لها للتعبير عن كلّ ما يجول في خواطرنا وكلّ ما نشعر به هي الكتابة، فبها تستطيع التعبير بشكل رائع ومعبّر عن كل ما تريد، وما ترغب بإيصاله، فالكتابة هي صياغة الكلمة، لا تصبح إبداعاً إلّا إذا انطبعت بروح الكاتب، فتلمس قلب القارئ وتنير عقله. وتمسي القطعة الأدبيّة هي المبدع لأنّها تعبّر عن أفكاره وهواجسه ومشاعره وأحلامه.
كما تصبح هويّته الأساسيّة تعرّف عنه وتعكس صورته، والحُضن الدافئ الذي لم يُخبرك عنه أحَد هي ذلك الحُضن الذي ينتشِلك من أحزانِك وآلامك ويشاركك أفراحك ونجاحك، أشبه ما تكون بالأسرة الحاضنة للحروف والكلمات والفقرات والأحاديث الشعورية رعايةً وحفظاً من الاندثار والضياع والتشتت، إنها الحضن النفيس والركن الأنيس.
كثيرا ما نذهب إلى العزلة اختياريا، حين تكون ملاذا من الألم الذى يسببه الآخرون، الافتراق البطيء مر ومعذب تغدو مساحة البيت الضيقة فضاء حرية، نعيما في مواجهة جحيم الخارج، الذى يفضح خواء النفوس وهشاشتها، وفي مثل هذه الحال يقيم صداقة دافئة مع تفاصيل وأشياء تبدو - على الرغم من حيادها الظاهر - عزيزة وأليفة ومسلية، كانه يعود إلى فطرته، يعيد تنظيم المسافة بين ذاته وبين البشر والأشياء.
لا تأتي العزلة وحدها، نحن الذين نذهب إليها، نختارها، حين تلج عالم العزلة فإن الكتابة هي وسيلة القول التعبير لا بل البوح حتى لو كان غاضبا، ستأخذك الكتابة ذاتها إلى ما كان قبل هنيهة مجهولا بالنسبة لك وسيغدو ما كتبت كائنا حيا مستقلا عن ذاتك، حتى لو كان في الأصل فلذة من مهجتك، وسترى بعد حين لن يطول أن من يشاطرونك هذه الذات من يشبهونك، هم من الكثرة بحيث تغدو وحدتك نافذة على الحياة، على أولئك الذين يشاطرونك الألم.
ليس بينا وبين الكتابة عقد مكتوب ينظم مواعيد زيارتها وإقامتها وعطائها، فهي تزورنا متى شاءت، لا حين نشاء؛ ليلا أو نهارا، تعطينا بمقدار ما تسترقه من فرح الدنيا وترحها، والكتابة المبدعة لا تخضع إلى ضوابط الزمان والمكان وهي تخترق فضاء الخاطر بلا إذن ولا موعد وتغادره متى شاءت في معظم زيارتها، تجلب إلهاما جديدا إما سحابا يقطر أملا وإما حمقا يمطر نارا، نكتب لمغالبة بعض الانكسارات والمخاطر، نكتب تفاعلاً بمن حولنا، نكتب بحثاً عن شيء ضائع، نكتب لنذيب شوائب النفوس، نكتب لننسى بعضا من حزن كمن في الدواخل وأقام بها، فكانت الكتابة هى الوسيلة الوحيدة للتخلص مما يجوس بالخواطر، ففي لحظة ما وبطريقة خارقة أو عادية جدا، يكتشف الكاتب أن الكتابة هي وسيلته الوحيدة للعيش, رئته الثالثة، هي ملاذه الوحيد من جنون العالم، ومكان اختبائه الحميم، وهي في ذات الوقت أصل الجرح الذي لا يكف عن التجدد في روحه.
نكتب لأننا نحب أن نكتب، وحينما نشتاق نُعانق القلم بلا استئذان، ونُراقصه بلا خجلٍ، وحينما يصمت القلم وتجدب سَماؤه، نحسُّ بالشقاء وتتلاعب بنا أوهام الضياع، نحاول الكتابة رغم صدود القلم وجَفوة الحبر وصَمم الورق، نتحدى المستحيل لنكتبَ؛ لأن خلف القلم صقرًا مضطربًا في أسْرِه، وبُركان يتململ من هدوئه، ويَتوق لانفجار حِمَمه الحمراء والأرجوانية؛ لتحرقَ الغابة الشائخة الهزيلة، وتهدي رمادها قُربانًا لغدٍ أفضل وغابةٍ أجمل.