برزت مسألة ترجـمة القرآن فـي فكر ابن قتيبة فـي سياق حضاري مـميز؛ إذ كانت الغاية من تأليف الكتاب الذي ضم الـمسألة التصدي للـمحاولات التي ابتغت النيل من القرآن. يقول ابن قتيبة: «وقد اعترض كتاب الله ملحدون، ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا {مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر دخول؛ فحرفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله، ثـم قضوا عليه بالتناقض، والاستحالة، واللحن، وفساد النظم، والاختلاف»؛ فكان من الضروري الرد على هؤلاء الطاعنين. ولا شك فـي أن الرد على مثل هذه الـمحاولات الرامية إلـى النيل من القرآن يستلزم تـحصيل مـجموعة من الـمعارف والعلوم الـمتصلة بالنص القرآنـي. وهذا العصر الذي أظل ابن قتيبة وفَّر له ما ابتغاه منها. ولئن كانت جل الدراسات التي تناولت فكر ابن قتيبة أجمعت على تصنيف الكتاب في دائرة الرد على الطاعنين في القرآن الكريم فإننا ألمحنا قراءة جديدة مختلفة عما درج عليه الباحثون من قبل، قد تفتح للدارسين في ترجمة معاني القرآن الكريم مشروعًا جديدًا، وتبرز لهم - على نحو ما يبرزه الكتاب - مستويات استحالة ترجمة النص القرآني. وتبدو مسألة ترجمة القرآن للناظر للوهلة الأولـى فـي كتابات ابن قتيبة الدينوري مسألة عابرة؛ إذ لـم يـخصها بالذكر الصريح فـي أكثر من فقرة واحدة من كتابه «تأويل مشكل القرآن»، ثـم أتبعها فـي بعض الفقرات التاليات بأمثلة من القرآن، آيات لا يـمكن بـحال من الأحوال نقلها إلـى ألسن أجنبية دون نقص وفقدان، إن للمعنى أو للمبنى. بيد أن الـمتأمل فـي الكتاب، وفـي طريقة تبويبه، يوحي بأن مسألة ترجمة القرآن ليست مسألة عابرة بل تكاد تكون مـحور الكتاب، وموضوع تأليفه الرئيس. قد نكون نبالغ فـي زعمنا هذا؛ فقد ذكر ابن قتيبة الغاية من تأليف «تأويل مشكل القرآن» حين قال: «فأحببت أن أنضح عن كتاب الله، وأرمي من ورائه بالحجج والبراهين البينة، وأكشف للناس ما يلبسون؛ فألفت هذا الكتاب جامعًا لتأويل مشكل القرآن، مستنبطًا ذلك من التفسير بزيادة فـي الشرح والإيضاح، وحاملاً ما لم أعلم فيه مقالاً لإمام مطلع على لغات العرب؛ لأُرِي به المعاند موضع المجاز، وطريق الإمكان، من غير أن أحكم فيه برأي، أو أقضي عليه بتأويل». فموضوع الكتاب ظاهره ليس القول فـي ترجمة القرآن، وإنـما هو رفع اللبس عن الألفاظ الـمشكلة من القرآن. قد نكون نبالغ فـيزعمنا أن مسألة ترجمة القرآن مسألة مـحورية من «تأويل مشكل القرآن» لابن قتيبة على الرغم من الإشارة إليها الإشارة العابرة، لكننا عندما رحنا نجول فـي مقدمات الباب الأول من أبواب الكتاب «باب ذكر العرب وما خصهم الله به من العارضة والبيان واتساع المجاز» إذا بـنا نجدها مقدمات، غايتها تقرير شيء بالغ الأهمية، استحالة ترجمة النص القرآنـي «لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة». وإن أنت تابعت تـجوالك فـي باقي أبواب الكتاب وجدته يبسط فيها ما أوجزه في الباب الأول. وإن شئت بيانًا مفصلاً عن وجهة نظرنا فتتبعه على النحو الآتـي:
- الـمقدمة الأولـى: معرفة اللسان العربـي من معرفة القرآن؛ فالعارف بفضل القرآن هو من كثر نظره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانـها بالأساليب، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات.
- الـمقدمة الثانية: القرآن دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
- الـمقدمة الثالثة: للعرب مذاهب في القول: التفنن في الكلام، العناية به على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام، ولها الإعراب، والشعر، والمجازات.
- الـمقدمة الرابعة: وبكل هذه المذاهب نزل القرآن.
- النتيجة: ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة، كما نُقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية، وتُرجمت التوراة والزبور. وتندرج المسألة عند ابن قتيبة - كما ذكرنا - ضمن «باب ذكر العرب وما خصهم الله به من العارضة والبيان واتساع المجاز». وتكاد تكون مقدمة الباب التي خصصها لجملة من خصائص العرب في كلامها مقدمة لإقرار موقفه من ترجمة القرآن؛ إذ «لا يقدر - كما ذكر - أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة». والظاهر في هذا الموقف التوكيد على استحالة ترجمة النص القرآني استحالة قطعية مطلقة، ركنها الرئيس اتساع العرب في المجاز، وعدم قدرة العجم على مجاراته «لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب». لكن ابن قتيبة لا يكاد ينتقل إلى الفقرة التي تلي إقراره هذا حتى يقرر أمرًا آخر يوضح تصوره لطبيعة الاستحالة.. يقول: «وكذلك قوله تعالى: {وضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا} إن أردت أن تنقله بلفظه لم يفهمه المنقول إليه، فإن قلت: أنمناهم سنين عددًا لكنت مترجما للمعنى دون اللفظ»؛ فترجمة معاني القرآن من منظور ابن قتيبة أمر ممكن إذن، وإنما الاستحالة تشمل العلامة، إن نحن عبرنا بمصطلحات اللسانيات الحديثة، ولا تشمل الدال أو المدلول قبل توحدهما؛ فترجمة اللفظ من القرآن من منظور ابن قتيبة ممكنة، وكذلك ترجمة معانيه ممكنة، لكن ترجمة النص القرآني بلفظه ومعناه غير ممكنة؛ فثمة - إذن - ثلاثة أنواع من أنواع الترجمة، هي: ترجمة اللفظ، ترجمة المعنى وترجمة النص. لعلنا نجانب الصواب لو زعمنا أن «مشكل غريب القرآن» لابن قتيبة يكاد يكون كله إجابة عن سؤال سائل: هل يمكن ترجمة القرآن؟ وأكاد أرى في الخطة التي انتهجها في تحرير كتابه حجة لذلك؛ فقد افتتحه بذكر فضل القرآن وكونه معجزة من معجزات الله. يقول بعد الفقرة التي نقلناها عنه منذ حين: «وكان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لم يأتوا به ولو كان بعضهم لبعضهم ظهيرا، إلى سائر أعلامه زمن البيان»، ثم يبدأ بذكر جملة من مذاهب العرب في قولهم، أولها الخطابة، ثم شمول حروف العربية لجميع حروف الألسن الأخرى، ثم الإعراب ودلالته على المعنى، ثم الاشتقاق، ثم الشعر، ثم المجازات، ثم يقرر الحقيقة التي مؤداها: «وبكل هذه المذاهب نزل القرآن؛ ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة». ثلو تتبعت ما بقي من أبواب الكتاب لملت معي إلى القول بأن ترجمة القرآن تكاد تكون الباعث على تأليف الكتاب.
** **
د. مختار زواوي - باحث وأكاديمي مترجم في اللسانيات والسيميائيات
... ... ...
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com