تقديم المترجم: هذه المادة مترجمة بتصرف عن الفصل الخامس من كتاب «الصحافة العربية» للبروفيسور ويليام رف، طبعة يناير 2004. السفير البروفيسور ويليام رف هو أستاذ زائر للدبلوماسية العامة في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس الأمريكية. وعمل دبلوماسياً للولايات المتحدة خلال 1964-1995، حيث أدى تسع مهام دبلوماسية في العالم العربي. حصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة كولومبيا الأمريكية. كما أنه عضو في مجلس أمناء الجامعة الأمريكية في بيروت. وتشكِّل هذه المادة الفصل الثاني من كتاب «الصراع السياسي والتحيز للحضر في الصحافة الكويتية المعاصرة» الذي صدر مؤخراً من إعداد وترجمة وتعليق حمد العيسى، ومن تأليف الباحث النرويجي د. كتيل سلفيك وآخرين، وصدر في 648 صفحة عن منتدى المعارف في بيروت. وننشر هنا موجزاً لهذا الفصل بعد حذف الجداول التي لا تناسب النشر الصحافي. وينبغي قراءة هذه المادة في سياق تاريخ نشرها عام 2004:
وأصبح لبنان مستقلاً في عام 1943؛ ولكن فرنسا في الواقع احتفظت ببعض السلطات، وخاصة سلطة مراقبة الصحافة التي لم يتم تسليمها إلى اللبنانيين حتى عام 1946 عندما انسحبت القوات الفرنسية نهائيا. وكان النظام السياسي اللبناني المستقل حديثا يقوم على توازن دقيق بين مجموعة متنوعة من جماعات المصالح، وهو الأمر الذي استمر حتى يومنا ولا يزال يكمن ضمنياً في نظام الصحافة. لقد كانت لبنان دائما ملجأً للأقليات، وبخاصة الطوائف الدينية، التي حافظت على استقلالها وتنافست أحياناً بقوة ضد بعضها البعض. وقد جرى التوصل إلى اتفاق «غير مكتوب» عام 1943 سمي بـ «الميثاق الوطني»، وقد جرى الاتفاق عليه بين أبرز زعيمين للمسيحيين والمسلمين. لقد قبلت جميع المجموعات والفصائل والطوائف تعايش الأمر الواقع الذي يتضمن، من بين أمور أخرى، تخصيص نسبي للمناصب السياسية العليا على أساس النسبة الطائفية والفصائلية في السكان؛ فالتوازن التنافسي الكامن في النظام السياسي اللبناني ليس فقط بين طوائف دينية، ولكنه أيضاً بين اتجاهات أيديولوجية، علمانية، اجتماعية، اقتصادية جغرافية، شخصية، وعائلية أيضا.
وتعكس الصحافة اللبنانية تلك الانقسامات المتعددة. كما تؤدي الاختلافات بين المسؤولين السياسيين، والتي تنتج من الانقسامات وضرورة تشكيل حكومة «ائتلافية»، إلى جعل الدولة ضعيفة نسبيا أمام جماعات المصالح المنظمة. وفي مثل هذه البيئة، تكاثرت وانتشرت الصحف والمجلات، وأصبح العديد منها سياسيةً للغاية، ومعظمها تعكس مصالح جماعات أو أحزاب خاصة. ثم أصبحت الصحافة تتصارع مع الحكومة كثيراً؛ ولكن الحكومة اللبنانية المتحضرة لم تقدر أو لم ترد ، بخلاف معظم الدول العربية الأخرى، ممارسة الاستبداد وكبح مستوى المعارضة أو التنوع بدرجة كبيرة.
كانت الصحافة اللبنانية قوية نسبيا من بداية العصر الحديث، إذ فضحت فساد النظام السياسي الأول بعد الاستقلال، واتهمت الحكومة بتزوير انتخابات عام 1947؛ وهو ما جعل الحكومة ترد بفرض قوانين أكثر تقييدا للصحافة في عام 1948.
وكانت الحكومة الجديدة، التي جاءت في سبتمبر 1952، ممتنة للصحافة وأصدرت في أكتوبر قانوناً أكثر ليبرالية للصحافة ألغى معظم القيود؛ ولكن رؤساء التحرير لم يوقفوا انتقاداتهم للحكومة. وفي الواقع، زادت قوة الصحافة خلال الخمسينيات، خصوصا مع اعتراف السياسيين والمجموعات المنظمة بقيمتها باعتبارها حليفا في معاركهم. ومع زيادة وترسخ أهمية الصحافة في المجتمع، زاد عدد الصحف بسرعة، ولم تمض مدة طويلة حتى صدرت أكثر من 50 صحيفة يومية في بيروت وحدها. (6)
ومن وقت إلى آخر، وبالرغم من بعض الرقابة الذاتية داخل الصحف، تدخلت الحكومة لممارسة الرقابة المباشرة على الصحافة. وخلال الحرب الأهلية عام 1958، أوقفت الحكومة عدة صحف، وخالفت صحيفتان قرار التوقيف حيث طُبعت الصحيفتان في منطقة «البسطة» التي يسيطر عليها متمردون في بيروت، واستخدمت الحكومة سلطتها أيضاً لفرض رقابة وحظر على قضايا محددة في الصحافة. ولكن حتى عندما فرضت تلك الرقابة، كانت الصحف اللبنانية عادة تظهر استقلالها عبر نشر مساحات فارغة مطموسة باللون الأسود لتعبر عن تعرضها للرقابة، كإشارة للقراء بأنها تعرضت للرقابة وهي ممارسة لا يُسمح بها في أي مكان آخر في العالم العربي.
وأدت شدة أزمة الحرب الأهلية عام 1958 إلى أن تحظر الحكومة دخول بعض المطبوعات الأجنبية، خاصة المصرية والسورية. وفي مناسبات أخرى، حظرت أعداد معينة فقط من تلك المطبوعات، بالرغم من أنه كقاعدة عامة لا توجد مثل هذه القيود وتتوفر تقريباً أي مطبوعة أجنبية في بيروت.
ويستمر قانون الصحافة اللبنانية لعام 1962 صالحاً مع بعض التعديلات. ويحظر ذلك القانون نشر «أخبار تهدد الأمن الوطني أو الوحدة الوطنية أو حدود الدولة، أو إهانة رئيس دولة أجنبية». ومالت الصحافة اللبنانية، على مدى السنوات، إلى تفسير ذلك القانون بشكل ليبرالي متحرر نوعا ما ومراقبة رد الفعل. ودعم قانون 1962 نقابة الصحافة (الخاصة بالناشرين أي ملاك الصحف) ونقابة المحررين (أي الصحافيين)، وطالب بهيئة للتنظيم الذاتي. وفي العادة، لم تجد الحكومة من الضروري التدخل مباشرة، نظراً لأن النقابتين عملتا بشكل ممتاز في الممارسة العملية. وساعد هذا القانون على ترسيخ «درجة عالية من الحرية» في الصحافة، ويفخر المحررون اللبنانيون بممارستهم للتنظيم الذاتي، الذي جنّبهم عادة الرقابة الحكومية. (7)
وخلقت الحرب الأهلية اللبنانية، التي بدأت في أوائل عام 1975 واستغرقت 17 سنة، ضغوطاً خاصة على الصحافة كما فعلت في جميع المؤسسات اللبنانية؛ فقد بدأت «الفسيفساء الاجتماعية» في لبنان، التي وفرت الأساس التعددي لديمقراطية مفتوحة لمدة ثلاثين عاما، «تتمزق» بسبب قضايا اقتصادية واجتماعية، وحول توزيع المناصب في السلطة السياسية، وبسبب الجدل حول الدور الصحيح للفلسطينيين في لبنان، وغيرها من المسائل. وأصبحت الفصائل المتنافسة محبطة من الحوار في الصحافة والبرلمان، وسعت إلى إنجاز أهدافها عبر وسائل عنيفة. وتقاطعت الانقسامات عبر خطوط مختلفة.
** **
- ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى