رمضان جريدي العنزي
جلت في ربيع الشمال عدة أيام، فليس أجمل من التأمل في روعة النبت والزهر والاستماع لصوت العصافير المغردة، ومنظر الرعاة مع إبلهم والغنم، ينتابك حين التأمل والتدبر شعور مغاير لا يمكن وصفه أو سرده أو رسمه، فالربيع ولادة جديدة لأرض قاحلة، الربيع هناك اعتلى الأرض حتى ازدان بها وازدانت به، وحتى تحولت من حالة جفاف وتصحر إلى مصطحات خضراء بفعل النباتات المنتشرة بشكل كثيف فاتن وساحر، الشمال هذه السنة زارها الربيع فارتدت حلة من حلل الخضار واللون والبهاء، بعد أن كانت خلاءً مقفرًا، في رحلتي هذه وجدت ضالتي هناك فالسماء خلابة ممطرة، ووديان تسيل بالماء، وسهول خضراء على مد البصر، وغدران كأنها المرايا تحتضن الماء، وباعة متجولون يعرضون الكمأ (الفقع) والفرو والسدو والسمن والزبد والخاثر، مشهد أسطوري يخلب الألباب على شكل تلال ووهاد ورواب وجبال وأودية، يحتفل الشفق بوداع أسطوري للغروب، والندى يراقص العشب، والفراشات تطير من هنا تتبعها أخرى هناك، حتى العصفور خلب الربيع لبه فما عاد يخشى بشرًا ولا حجرًا وأشبع المكان صدحًا وعزفًا، حقول من الخزامى والصفار والشقارا والنفل والقحويان والحميض والقريص والبختري والشيح والقيصوم والرمث والخبيز، في الصباح تمر الغيوم هشة ورقيقة، تمطر حينًا هنا وتمطر حينًا هناك برقة وعذوبة وبهاء، منظر الأرض على مدى البصر يسر النظر، والسهول كأنها بيادر، الجو صافٍ ونقي، والسماء قريبة وممتدة تلامس أطراف الجهات من حوافها، وحالما تشرق الشمس تشرع العصفورة (أم سالم) بالغناء، وتغيب حين الغياب، لتعود الفراشات ليلاً تحوم حول موقد الجمر حيث السمر والحكايا والتذكر والقصيد، للأماكن سحرها وجمالها وسرها وألفتها، وهي لا تفقد سحرها وألقها بمرور الزمن، عندما كنت في الشمال أشياء كثيرة شدتني إلى أماكن معلومة، لم أجد لسحرها فكاكًا، أعود إليها بين الحين والآخر، فتحيي زيارتها فيني ذكريات تلاشت مع مرور الزمن، وضاعت في زحمة الحياة، وأشد الأماكن ارتباطًا بالذاكرة، هي الأماكن التي كنا نتردد عليها زمن الطفولة، حيث لا شيء كان يمنعنا من ممارسة لهونا البريء، وقضاء أحلى الأوقات، نسابق الفراشات في زمن الربيع، عندما تكسو الزهور أديم الأرض، للزهور في ربيع الشمال هذه الأيام رائحة مغايرة، وهي توزع الروائح الزكية على الزائرين بالمجان، وكذا حداء الرعاة وهو يشق الآفق طربًا ورقة ومتعة وعذوبة، كنت في هذا المهرجان الطيعي، أعبر تاريخًا من الأحاسيس المتداخلة، حيث ترتع العين، من حين إلى حين آخر، بزاوية من ذكرى قديمة تهب على المخيلة مثل ريح الصّبا فتحيي شريطًا شيقًا من الذكريات، حلقة متسلسلة من الصور والمشاهد المبعثرة عبر تفاصيل المفكرة، إنه الربيع حين يحل في الشمال يكسو الأرض عباءة خضراء مطرزة بالنبت والزهر والزهو والفرح، سفوح الجبال الزاهية بخضرتها المزدانة تتجلى أمام العين وفق صور فاتنة كلها حبور وانشراح، الأمكنة هناك إخضرارها على مد البصر وحيثما التفت، أزهار وتغريد أطيار وشمس ترسل أشعتها خيوطًا من ذهب، غيم وديم وهواء عليل، والناس هناك طيبون وعندهم كرم وألسنتهم تلهج بالهلا والترحاب، لقد كانت الرحلة جميلة ومدهشة، والأرض كانت فاتنة خلابة وساحرة، والرفقة كانت فاخرة وفيها ود وتميز.