د. عبدالحق عزوزي
إن الحوار بين ممثلي الحضارات والديانات ضرورة حتمية وواجب أخلاقي وإنساني، وهو تعبير أصيل عن أبرز قيم الحضارة الإسلامية وسمات الشخصية الإسلامية المتوازنة. ويتطلب فضلاً عن التكافؤ بين الإرادات والتوفر على النوايا الحسنة، الاحترام المتبادل والالتزام بالأهداف التي تعزز القيم والمبادئ الإنسانية التي هي القاسم المشترك بين جميع الحضارات والثقافات. ولا يعني احترام الرأي الآخر القبول به في المطلق، فقد أتفق أو أختلف معك، ولكن في النهاية الاحترام هو السائد.
ويفتح تحالف الحضارات المجال واسعًا أمام تفاهم الشعوب والجماعات، ويؤدي إلى تقارب الحضارات وتلاقحها، وينطلق من نقاط الالتقاء بدلاً من أوجه الاختلاف، في إطار الالتزام بالموضوعية والحياد عند تناول الآخر من النواحي كافة، والابتعاد المطلق عن تغيير الحقائق على نحو يشوه صورة الآخرين أو يسيء إليهم.
وهو اختيار العقلاء وسبيل يسلكه الحكماء ومسؤولية إنسانية مشتركة يتحملها بصورة خاصة، صانعو القرار والنخب الفكرية والثقافية والإعلامية في العالم أجمع، من أجل المشاركة الجماعية في بناء السلام في الحاضر والمستقبل.
إن الصدامات والصراعات تسبب المآسي على مستوى الأفراد والشعوب، وتزرع الكراهية والنفور بين البشر، والبديل الأمثل للوقاية منها هو الحوار والتفاهم والتعايش السلمي واحترام حقوق الآخرين ومراعاة خصوصياتهم، مع الاستفادة من التنوع الذي يمثله تعدد الديانات والثقافات والحضارات لبناء مجتمع إنساني متفاعل ومتكامل.
والإسلام دين سلام يعترف بجميع الديانات السماوية ويحترمها ويعترف بالأنبياء والرسل كافة. والحضارة الإسلامية جزء من الحضارة الإنسانية، تقوم على الوسطية والاعتدال والتعايش السلمي، والإيمان بالقيم المشتركة الثابتة، والتعاون والتفاهم المتبادل بين الحضارات، والتحاور البناء مع الديانات والثقافات.
فنظريات مثل تلك التي تتحدث عن «صدام الحضارات» و»حرب الثقافات» هي خطابات خاطئة ومغرضة تنبني على سجن الأفراد والجماعات في انتماءاتهم وهوياتهم الثقافية والحضارية، فلا يعقل أن تنمو وتتطور حضارة من الحضارات في معزل عن مكونات الحضارات والثقافات الأخرى، فالحضارة الغربية استفادت من الحضارة العربية الإسلامية كما أن الحضارة الإسلامية حققت انطلاقاتها وحققت ثقافة النحل في الإنتاج والإبداع بتلاقحها وتمازجها مع الحضارات الفارسية والبيزنطية السابقة والمعاصرة لها.
ولا غرو أنه إذا كانت القيم الحضارية والقواعد المشتركة الإنسانية هي لبنات كل حوار مثمر وفعال، فإن في القيم الدينية المشتركة بين الإسلام وغيرها من الديانات السماوية ما يمكن لفتح الطرق أمام التجاوب والتعارف، وفي القيم الحضارية المشتركة ما يسمح لها أن تعيش في وئام ووفاق.
ويؤسس النص القرآني صيغة التعارف والتعايش في الاجتماع البشري، مبنية على الأمن والتسامح والسلم الأهلي في آيات متعددة، منها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. فإذا تساءلنا عن الأصول المنهجية لفقه التعارف المستوحاة من القرآن الكريم، ومرتكزات ثقافة التعايش مع الآخر الداخلي، فإننا نجد أن هذه الآية الكريمة التي هي الأساس في فقه التعارف تؤكد على عدة مسائل هامة، أولاها: تأكيد واقعية الخصوصيات الإنسانية القومية والعرقية والجغرافية، لأنها تمثل واقع الوجود الإنساني الذي لا يمكن إلغاؤه. أما ثانيها فهو أن الإسلام يشجع على تحريك الخصوصيات في دائرتها الداخلية بجانبها الإيجابي الذي يدفع الإنسان إلى التفاعل عاطفيا وعلميا مع من يشاركونه تلك الخصوصيات والقضايا المتعلقة بها، شرط ألا تتحول تلك المشاركة إلى عقيدة عصبية تأخذ مبدأ عدوانيًّا تجاه الآخرين.
في حين تتعلق المسألة الثالثة التي تؤكدها الآية الكريمة بأن تنوع الخصوصيات الإنسانية قد يتمثل في تنوع الخبرات العلمية، مما يجعل من كل شعب حاجة للشعب الآخر للحصول على الخبرة التي يفتقدها في ذاتية ظروفه وأوضاعه، وليقدم له ما يملكه هو من خبرة مختلفة في حاجته إليها، وفي ضوء ذلك يتم التعارف من موقع الحاجات المتبادلة، وينتج التقارب والتلاقي اللذين يكشفان فيه وجود أمور مشتركة يلتقيان فيها.
ولا مرية في أننا نحن المسلمين من دعاة الحوار، لا انطلاقا من مواقف آنية ولا استجابة لظروف وقتية، ولكن لأن مبادئ ديننا الحنيف تدعو إلى ذلك وتحث عليه تجسيدا لوحدة النوع الإنساني وترسيخا لمبدأ سواسية الناس في الخليقة، وتحقيقا لإرادة الله عز وجل في جعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، ذلك التعارف غير المقصود لذاته، وإنما لما يثمر من تعاون لخير الجميع.