ولنضرب مثلًا بالقلق: القلق هو حالة نفسية وليست موضوعيةً، بمعنى أنه من صنع النّفس وليس موجودًا فيما يحيط بنا من العناصر الطبيعية. حقًا إن سببه موجود في البيئة التي نعيش فيها، فالإنسان يأتي أمرًا من الأمور ويقصده منتظر نتيجة عمله، ولأنه يجهل النتيجة، ولا يضمن أن تأتي كما يشتهي ويروم يضرب أخماسًا لأسداس، ويظل يركّز كل مشاعره على نوع معيّن من النتائج، وترتعب منه الفرائص لدى تخيّله بأنّ الأمور لا تسير على ما يرام؛ فيأكل أصابعه، وينتف شعره، ويتملّكه نوع من الهستيريا قد يحدث له، فينقطع عن الأكل والنّوم فتضعف أعصابه وتصبح أكثر قابليّةً للاضطراب والانفعال، وتزداد فيه عوامل القلق من جديد، وهكذا يدور في حلقة لعينة، من قلق إلى ضعف في الأعصاب، ومن ضعف في الأعصاب إلى قلق أشدّ، وهكذا إلى مالا نهاية، والواقع أنّ هذا الإنسان أسلم قيادته إلى عواطفه ومشاعره، وألغى عقله وأقصاه عن الاضطلاع بمسؤوليّاته، بينما كان يستطيع هذا الإنسان أن يترك الأمور تجري في مجراها بعد أن يكون قد أفرغ جهده في تغليب العناصر التي تعينه على أغراضه. وبعد أن يفعل هذا يصرف الموضوع من نفسه ولا يعود إليه، إلّا أن يستمتع بالنّتائج الحسنة، أو ليدرأ عن نفسه بعض النّتائج السّيّئة، وهذا عين ما يفعله كبار الرّجال؛ فإنّهم يولون المسألة كلّ التفاتهم ويصرفون فيها كلّ جهودهم، ثمّ يتركونها لشأنها لتنتج ما تريد أن تنتج، أمّا الاستسلام للقلق وتمليكه من نفس الإنسان فهو من شيمة الضّعاف.
يحكى عن ولنجنتون - القائد الإنجليزيّ الّذي قهر نابليون - أنّه وضع خططه للموقعة الفاصلة في التّاريخ، وقدّر لكلّ العوامل المفاجئة كلّ حساب، وعني بكلّ دقيقة من دقائق الاستعداد للموقعة، وبعد أن أفرغ ما في جعبته، وبذل كلّ قطرة من مجهوده في الاستعداد للقتال، نسي كلّ شيء ومحا القلق والاضطراب من نفسه، ثمّ ذهب إلى قصر الدّوقة في بلجيكا وظلّ يرقص إلى آخر لحظة كأن لم يكن حظه وحظ بلاده يضطرب في ميزان القدر، ولما أزف الوقت تأبّط سيفه وخرج من قاعة الرقص ليشرف على الموقعة التي غيّرت مجرى التاريخ.
من العادات السّخيفة في بلادنا عادة «الطّلعة» أو زيارة الميّتين في مقابرهم؛ فليس لهذه الزيارات من غرض سوى تجديد الحزن، والسّعي وراء الشّقاء والغرام به، كأنّ لذّة الدّنيا عندنا في هذه التّعاسة نجري وراءها إذا ما غادرتنا. الحقّ، إنّ الإنسان يصطنع الشّقاء لنفسه، ويضعه أمامه ثمّ يبكي ويشكو من زمانه ومن تباريحه. وما الزّمان وتباريحه إلّا هراء من هراء، لست أنكر أن يحزن الإنسان لموت أعزّائه، ولكنّي أنكر عليه أن يلحف في الحزن، وفي اصطناع الشقاء والتعاسة