قرأت في مقالة جميلة دراسةً لأحد الباحثين، أكّد فيها الأثر السّلبيّ للبدائل الكثيرة بعد أن باع العسل بطريقتين: الأولى، تمّ عرض ستّة أنواع فقط من العسل, حيث توقّف ما نسبته تقريبًا (40 %) من المارّة أمام طاولة العسل، وسألوا عن الأنواع. وقد قام ثلاثة أرباعهم بالشّراء؛ أي (75 %) ممّن توقّفوا.. أعاد الباحث الكرّة، ولكن صفّ أكثر من عشرين نوعًا من العسل. المفاجأة كانت أنّ (60 %) من المشاة توقّفوا وسألوا عن الأنواع واختلافاتها.. لكنّ الذي اشترى فعليًّا هم (5 %) من الّذين توقّفوا.. هناك اختلاف كبير بين نسبة الأشخاص الّذين اشتروا وبين السّيناريو الأول والثاني.. إذًا، ماذا حصل؟ كلّ الّذي حصل أنّ البدائل زادت الخيارات فتكاثرت! وقديمًا قالوا: «إذا بتحيّره خيّره!»
والسر خلف هذا، أنّ تعدد البدائل يزعج العقل ويلزمه بتفكير أعمق؛ ممّا يؤدّي إلى إنهاكه وإجهاده؛ لذا، فالبشر يجنحون للهروب من هذا الأمر عبر الابتعاد عنه, وفي هذا الشأن ما زلت أتذكّر مطعمًا يقدّم أكلًا شعبيًّا، وكان غايةً في النّجاح، وكانت الطوابير عليه طويلةً، وحدث أنّه كان يتوسّع في «المنيو» عبر استحداث أطباق جديدة؛ ممّا جعل الأطباق تتكاثر وضعف الإقبال، ووجهة نظري أنّ هذا التّنوّع كان سببًا رئيسًا، وفي المقابل أعرف مطعمين لا تتجاوز قائمة الطّعام خمسة أطباق، ولا يزال يحظى بإقبال كبير!
وممّا راق لي تحليل عجيب لأحدهم لسرّ توحيد الملابس عند جملة من عظماء الزّمان، مثل «ستيف جوبز» والّذي لا يلبس سوى «التي شيرت» الأسود والجينز فقط؛ والسر في هذا أن يعفي نفسه من مؤونة التّفكير في اللّبس، والتّفرّغ لما هو أهمّ! إنّ صاحب نظريّة التّنافر المعرفيّ هو «ليون فسنتجر» ويرى استنادًا إلى فكرة «الاتّزان النّفسيّ» أنّ الإنسان عندما يقع تحت تأثير أفكار متنافرة، فإنّه يتولّد داخله نوع من التّوتّر من شأنه إحداث تغيير لإزالة هذا التّنافر، والعودة بالشّخص مرّةً أخرى إلى حالة التّوازن والتّآلف المعرفيّ. وهذا التّغيير يعبّر عن نفسه في صورة تعديل في أفكار الشّخص أو حتّى في سلوكه أو في عنصر أو أكثر من عناصره المعرفيّة التي يحملها، وقد يلجأ الشّخص إلى التّقليل من أهمية الأفكار المتضاربة في نظر نفسه؛ كلّ هذا لإزالة حالة التّوتّر أو التّقليل منها.
أنا - شخصيًّا - كنت أعاني كثيرًا في اختيار ملابس السّفر؛ نظرًا لتكدّسها وكثرتها وتنوّع ألوانها، وعندما قلّلت منها أصبح الأمر - ولاشكّ – أسهل! لا تتوسّع كثيرًا في البدائل، وحتّى عندما تريد أن تتّخذ قرارًا في سفر أو شراء سيّارة، فلا تبالغ في الخيارات المطروحة، لا تتجاوز ثلاثةً، ثمّ قارن بينها، ثمّ اعقد العزم واختر أحدها متوكّلًا ومستعينًا بالله.
وعلى الضفة الأخرى، نجد أنّ شح ّ البدائل؛ وذلك بعدم توسيع الدّائرة والاقتصار على بديل واحد، أمر يجانب المصلحة؛ فالتّركيز فقط على أمر واحد ربّما يعمي العين، ويفوّت الفرصة على بديل آخر أكثر فائدةً، وأعظم نفعًا!