د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عندما وقعت الفتنة القرطبية بالأندلس، استقل كل حاكم جهة بما تحت يده، وبدأ حكم الطوائف، وكان نصيب أبو الوليد ابن جهور قرطبة، وهو شيخ الجماعة بها، وأكثرهم ثراءً، حتى قيل إنه يملك ثلث قرطبة، وكانت إشبيلية من نصيب محمد بن إسماعيل بن عباد قاضيها، وكذلك فعل ابن الأفطس، وابن صمداح وغيرهم، وما يمكن أن يجمعهم هو العلم والثقافة، فكثير منهم علماء وشعراء، لكن ذلك لم يساعدهم على الالتفاف حول أحد بني أميه حكام الأندلس لسنوات عديدة.
كان ابن زيدون الشاعر المشهور في قرطبة، وكان عمره آنذاك سبعة وعشرين عاماً، وهناك من يقول إنه سبب الفتنة القرطبية، وهو من سعى إلى أن يكون بن جهور حاكمها حكماً جماعياً، حيث كان يستشير الجماعة في معظم الأمور، لأن الوضع جديد، وصيغة الحكم في قرطبة وغيرها من المدن الأندلسية لم يبلور بعد، بعد مرور مدة من الزمن، اتهم ابن جهور، ابن زيدون بمأخذ أخذ عليه، وأودعه السجن، واستمر فيه خمسمائة يوماً، وأرسل ابن زيدون من سجنه رسائل وقصائد يستعطف بها أبو الوليد بن جهور لعل قلبه يرق، ويخلي سبيله، لكن ابن جهور لم يلقِ له بالاً، فما كان منه إلاّ أن هرب من السجن إلى إشبيلية، وكان المعتضد بن عباد حاكمها في ذلك الوقت، وكان جباراً، لكن ابن زيدون بدهائه استطاع التعامل معه، ومع ابنه المعتمد بن عباد من بعده، وهو الشاعر الرقيق، والأديب الذي تتغنى كتب التاريخ برحلة حياته المليئة بالحب والحياة الثقافة والعلم، ومن بعد ذلك مأساته وزوال حكمه على يد يوسف بن تاشفين الذي أودعه سجن أغمات بالمغرب، وهذه المدينة لا تبعد كثيراً عن مدينة الرباط الحالية.
واشتهر لابن زيدون قصيدتان إحداها تُسمى الهزلية التي ضمّنها تهكماً بمنافسيه على قلب ولادة بن المستكفي، والأخرى تُسمى الجدية، والتي أرسلها إلى ابن جهور وهو في السجن، وقد قام الخليل بن أيبك الصفدي الذي ولد عام ستمائة وستة وتسعين، بشرح لرسالة ابن زيدون الجدية، وكان شرحاً وافياً، ولا غرابة في ذلك فهو عالم، حفظ القرآن، ويدرس الحديث والنحو، تقلّد الكثير من المناصب، وله مراسلات مميزة مع أدباء عصره، مثل أبي الفتح ابن سيد الناس، وأبي عبدالله المقري، وابن الوردي، وابن نباته.
في هذا المقال سنقف عند مقتطفات من شرحه لجملة واحدة، وقد نقف في مقالات أخرى عند الجمل والشروح التي تحمل شيئاً من الحكمة لعلها تضيف شيئاً للقارئ الكريم، قد تفيد القارئ الكريم، فقد قال ابن زيدون: «بصيغة تصيب منها مكان المصنع، أو تستودعها أحسن مستودع».
يقول في الشرح: (قال الحجاج لابن الفريه: وأضيع الأشياء؟ مطر جود في أرض مصبخة لا يجف ثراها، ولا ينبت مرعاها، وسراج يوقد في الشمس، وجارية حسناء تزف إلى عنين أعمى، وضيعة تهدى إلى من لا يشكرها).
أما أنا فما رأيت قول الحجاج صواباً، فصنع المعروف، ليس ابتغاءً للشكر، ولا لرفع القدر، فعند الله الأجر، ولذة فعل المعروف لا تضاهيها لذة، وإدخال السعادة على الناس، وطرف من الإيناس، لمن لديه إحساس، يدخل البهجة والسرور.
وقال: خرج قوم للصيد، وطردوا ضيعاً حتى لجأوها إلى خباء إعرابي، فأجارها، وجعل يطعمها، وبينما هو نائم إذ وثبت عليه، فبقرت بطنه، فجاء ابن عم له يطلبه، فإذا هو بقير، فتتبعها حتى قتلها، وقال:
ومنْ يصنع المعروفَ في غير أهله ِ
يلاقي الذي لاقَى مجيرُ أم ِّ عامر ِ
أدام لها حين استجارت بقربهِ
طعاماً وألبان اللقاح ِ الدرائر ِ
وسمّنها حتى إذا ما تكاملتْ
فَرَتْه ُ بأنياب ٍ لها وأظافر ِ
فقلْ لذوي المعروفِ هذا جزاء منْ
بدا يصنعُ المعروفَ في غير شاكر ِ
وأم عامر كنية الضبع، وهذه القصة معروفة، وكثيراً ما يضرب المثل بالبيت الأول، والأمثال في الواقع ليست كلها صواباً، بل قد تجد التناقض فيما بينها، لكن المثل يحكي حال قائله أو المستشهد به، وليس صالحاً لكل حال.
ويقال إن عُمارة اليماني، خاطب السلطان صلاح الدين لأمر بلغه عنه، فقال ثلاثة أبيات آخرها:
فيا زارع الإحسان في كل تربة
ظفرت بترب ينبت الشكر فازرعِ
ومع كل ما قال من شعر، وتقرّب بنثر، فإن صلاح الدين لم يلتفت لقوله، ولم يقل له جهله، فقتله ووضعه في تُرب، لم يعد معه زرع ولا شكر.