د. أحمد الفراج
تطرقت في المقال الماضي عن كتاب المفكر الفرنسي، برنارد ليفي، الذي تحدث من خلاله عن تأهب خمس إمبراطوريات سابقة، لوراثة الإمبراطورية الأمريكية، التي بدأت، منذ فترة، تتخلى عن دورها كشرطي للعالم، ويبدو من قراءتي لتحليل ليفي أنه يريد أن يرسل تحذيرا للعالم الغربي، خوفا من أن تتفاقم الأوضاع، ويحدث ما لا تحمد عقباه، لأن الحديث عن سقوط أمريكا قد لا يكون منطقيا في القريب المنظور، وإن كان لا يوجد ما هو مستحيل، فكما أن هناك نظرة حدِّية تجاه نظرية المؤامرة، أي هناك من يؤمن بها إيمانا مطلقا، وهناك من ينكرها بالكلية، فهناك أيضا رؤية حدّية تجاه أمريكا، إذ هناك من يؤكد حتمية سقوطها، وهناك من يرى هذا الأمر مستحيلا، مع أن مثل هذه الأحكام الحدّية ليست علمية ولا منطقية، وتغلفها العاطفة دوما.
نعم، هناك انقسام غير مسبوق في المجتمع الأمريكي حاليا، ولا يعني ذلك أنه كان مجتمعا مثاليا قبل ذلك، فأمريكا تبدو مثل قصر منيف، تسكنه أسرة مشتّتة، تحكمها الخلافات والعداء، وتسيطر عليها الشكوك والخوف، فهي الدولة التي دخلت منذ تأسيسها في صراعات داخلية، مع الهنود الحمر، والتي شملت التهجير القسري والمجازر المروعة بحقهم، ثم مع الرقيق الأسود، وهو التاريخ الذي صورّه فيلم «الجذور»، المبني على رواية الكاتب المبدع، اليكس هيلي، الذي حكى تاريخ الرجل الأبيض في العالم الجديد مع السود، وهو تاريخ مليء بالعذابات والظلم والقسوة المفرطة، وحتى عندما تم تحرير الرقيق، استمرت معاناتهم من العنصرية والظلم، حتى انتهى كل ذلك على يد الرئيس، ليندون جانسون، قبل نصف قرن فقط.
في أمريكا، هناك عالمان مختلفان، عالم النخب والمال والنفوذ، الذي يمثله البيض، وعالم الفقر والحرمان، الذي يمثله السود والمهاجرون، ومن عاش في أمريكا، يعلم أن هناك جمرا تحت الرماد، يلتهب مع كل حادثة عنصرية، كما في حادثة اعتداء رجال الشرطة البيض على المواطن الأسود، رادني كنج، وهي الحادثة التي تتكرر بسيناريوهات مختلفة حتى اليوم، وقبل أعوام قليلة فقط، اعتدى شاب عنصري أبيض على كنيسة للسود، في مدينة شارلستون، بولاية جنوب كارولينا، وقتل مجموعة منهم، وكان ذلك في زمن الرئيس أوباما، وفي كل مدينة أمريكية، هناك ما يشبه الفصل العنصري الاختياري، إذ تجد أحياء السود منعزلة، ولا تشبه بقية المدينة، ويلاحظ ذلك بشكل صارخ في ولايات الجنوب، المحافظة تاريخيا، وكلما توغلت في الريف، كلما رأيت أمريكا اليوم، تشبه أمريكا ما قبل إقرار قانون الحقوق المدنية، أي أيام الفصل العنصري، فلا غرو إذاً أن نشهد هذا الانقسام الحاد في المجتمع الأمريكي حاليا، وهو الانقسام، الذي ينذر بعواقب وخيمة، وسنواصل الحديث!.