د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** تلذُّ له متابعةُ بعضِ الكتاباتِ المنفصلةِ عن إشكالات اليوم -بكلِّ أبعادها- ويجدُ فيها عزاءَه عن الانصراف نحو قنوات البثِّ السائدةِ؛ «تقليديّها ورقميِّها» حيثُ الضجيجُ المُصِمُّ بسلبيته وسطحيته، ويقابلها - على مسافةٍ نائيةٍ - وسائطُ هادئةٌ تعتمرها إيجابيةٌ وامتلاءٌ ومرجعية؛ فيلوذ بها حينًا ويسأمُها أحايين، ويحسب الخلل في نفسه أو درسه؛ فلماذا يضيقُ بما يبهج فيظنه إلهاءً؟ ويفرُّ عن المَخرج ويحسبه إملالًا؟ «فلا بذا يرضى ولا يرضى بذاك» إلا أن يكون الزمنُ قد ضلّ أو هُو قد كلّ، وهل للخريف أن يلبسَ رداء الربيع؟!
** الفارق بين الضفتين نهرٌ هلاميُّ التكوين والتلوين، وضفتاه ساعات الرضا والضيق؛ فنرى بعقولنا مرة وبعيوننا مرارًا، ونسأمُ أوقاتًا ونبتسم أويقات، وقد لا نُدرك المسافة التي نقطعها بينهما إلا حين تؤذن الشمسُ بالازورار والأرواحُ بالانكسار، وحينها لا قرار ولا استقرار، وكأننا فوق «قلِقِ» المتنبي تُحركنا الريح فلا تأسونا التباريح.
** والفارقُ كذلك غيابٌ وإياب، وكتابٌ ويباب، ولغةٌ ولغو؛ إذ لا يُعيذُنا الصمت كما لا يُعيدنا الصوت، وتبقى رحلة الهزيع الأخير مجدبةً في زمنٍ مطير.
** والفارقُ-أيضًا- أحياءٌ يعشَوْن وأمواتٌ يعيشون فنُنتهبُ بين التهويم في دنيا لا نراها حيث لا تُمثلنا أو لا نتمثل فيها وبين الإبحار في عالمٍ لا نرتئيه وربما لا نرتضيه، ويصطرعُ الجدُّ والتجديد في دواخلنا لنلتقيَ بمن يؤمن بوجودية «سارتر» دون أن يُناوئَ الإيمان، ويعتنق توسطية «كيركيغارد» ولا يفسر الماهية، ويمرر نظريات «ديكارت وسبينوزا وكانت ونيتشة»، ويُحاور مآثر «المعتزلة والصوفية والإمامية والتيمية»، ويتفهم خلاف «الغزالي وابن رشد»، ويروي حكايات «جنكيز خان وتيمورلانك وسليم الأول ومحمد علي»، ويستذكر «الكواكبي ومحمد عبده والرافعي وطه حسين»، والتمثيلُ بالأسماء والأهواء يقف عند الملامح الأوليةِ لدنيا لا تحفلُ بما كان وما يمكن أن يكون.
** والفارق أن ضفة النهر الأخرى لا تعبأُ بأولاءِ فلا تعترف بمُقامهم ولا بمَقامهم منتشيةً بمن يبعثون البهجة ويضيئون العتمة؛ فليسكنْ الراحلون بهدوءٍ، ولا بأس إن نفقت التآليفُ وتفوقت التخاريف؛ فلكل ضفةٍ ناسُها المؤمنون باخضرارها، المطمئنون إلى خيارها، والمفارقة مع سواهم اقتناعُهم أن الحياة مع الأموات أجملُ كثيرًا من الموت مع الأحياء، وكذا فالسفر في العصور الماضية أهدأ من التنقل بين الأزمنة المعاصرة.
** سيبقى هذا الحوار ممتدًا كما تصاريف الليل والنهار، ولا يمكن وأدُه كما لا يصحُّ جهلُه أو تجاهلُه؛ فلا فاصل بين من يأنسُ بسقراط الذي لم يُعرف له كتابٌ ولم يسعف زمنُه بمريدين وبين من يستهويه حراك الإغراء والإغواء بملايين تابعيه ومتبوعيه ثم يسكنه الإحباط، إذ المرتكزُ الأخير على الذاتين: المأزومةِ المهزومة في النفق والمنطلقة المحلقة في الأفق، وسنبقى نجترُّ جدل «البؤساء» الذين يحسبون الزمن وفق أهوائهم وهُوياتهم.
** الأطلالُ آجال.