أ.د.محمد بن حسن الزير
كم كان سمو ولي العهد؛ الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز محقاً ومصيباً كبد الحقيقة حين قال: (مجيباً على سؤال صحفي) تلقاه خلال زيارته لمحافظة العلا يوم الأحد 5/ 6/ 1440 للهجرة: «إنّا امتداد للدولة السعودية الثالثة» وفِي الوقت الذي كان الجواب طبيعياً وعفوياً؛ فإن سموه كان واعياً وواقعياً، ومدركاً تمام الإدراك لفحوى السؤال، ومدركاً لكفاية الجواب البليغ الموجز بما قال.. وكان موفقاً في هذا الجواب أيما توفيق!.
فنحن -اليوم- على الرغم مما تشهده الدولة من قفزات ومظاهر حراك حيوي، ونشاط إصلاحي، وظواهر تحديث في مسارات متعددة ومتنوعة في مجالات ومظاهر شتى، تبعث حقا على الدهشة والإعجاب؛ إلا أننا، في حقيقة الأمر، لسنا بصدد دولة جديدة، ولا نتفق مع من قد يرى مثل هذا الرأي.
لأن الدولة السعودية -أولاً- في مرحلتها الحالية، ليست مغايرة للدولة السعودية الثالثة التي أسسها الملك المؤسس، الملك عبدالعزيز، -طيب الله ثراه-! في أساسها ومبادئها ومنطلقاتها الجوهرية؛ بل ظلت وفية لجوهر الدولة المبدئي الثابت؛ الذي قامت عليه الدولة منذ مرحلتها الأولى، وهو أنها دولة إسلامية، تقوم على العقيدة الإسلامية أساساً، وتعتمد على الكتاب والسنة دستوراً، وعلى مقتضيات الشريعة نظاماً لها؛ كما هي سيرتها منذ البدء، وكما ينص على ذلك نظامها الأساسي للحكم.
وهي -ثانياً- ظلت وفية لمبادئ سياستها الخارجية في استقلالها وفِي عدم تدخلها في شئون غيرها، وفِي عدم السماح لأحد في التدخل في شئونها، كما أنها تقوم على أسس من احترام مبادئ حسن الجوار، وعدم الاعتداء، وترعى التعارف والتعاون على البر والخير، وتسعى لترسية دعائم السلم، وتحارب الشر والتطرف والإرهاب، وتحترم قيم الخير المشتركة مع الأمم الأخرى.
ونقول -ثالثاً- إن حركة الإصلاح والتطور المثيرة للإعجاب التي نعيشها اليوم في هذا العهد، ليست سوى تعبير طبيعي عن طبيعة الدولة السعودية السلفية وحركتها الإصلاحية المستمرة؛ سواء من حيث المنطلق ومبرر الوجود، ومن حيث الممارسة والتحقيق والتطبيق، وسواء من حيث التفكير لدى الإنسان وممارساته الحضارية والاجتماعية، وهو ما يعكس حيويتها ومرونتها التي تستمدها، بطبيعة الحال، من حيوية منهجيتها المستمدة من طبيعة الإسلام نفسها، ومرونتها وحيويتها.
ونقول -رابعاً- إن عبقرية الدولة السعودية في حركيّتها وتطورها ونموها المستمر، وتقدمها نحو المستقبل في خططها وسياساتها ومشاريعها ومنجزاتها اليوم، هي امتداد حقيقي لعبقرية التأسيس وروح الدولة التي أسس بنيتها وَقاد مسيرتها النامية المتطورة، منذ الخطوات الأولى وما تلاها من خطوات متتابعة؛ المؤسس العبقري الملهم الموفق الملك عبدالعزيز آل سعود، -طيب الله ثراه-؛ فقد كان الملك عبدالعزيز هبة من الله للعباد والبلاد، وكانت هذه الدولة الحديثة بكيانها ورسوخها وفخامتها ومنهجيتها وتطورها المتدرج الطبيعي هبة الملك عبدالعزيز بتوفيق الله له، واسترشاده بهديه، واستمداده العون منه سبحانه، صاحب العزة والجلال، وهو المسار الذي سلكه واقتفى أثره فيه أبناؤه وأحفاده البررة ورجال الدولة وأبناء الوطن العزيز المخلصون.
ولو عدنا إلى تاريخ الملك عبدالعزيز وتاريخ تأسيس الدولة معه، لوجدنا البنية الحقيقية التي تفسر لنا هذا المشهد الحضاري؛ بما فيه من منجزات ومشروعات كبيرة، ومبادرات باهرة، كامنة في روح ذلك التأسيس وعبقريته، ومنطلقة من رؤيته المتطلعة دوما نحو الأفضل، ونشدانه الحكمة أنى وجدها أخذ بها؛ لقد كان الملك عبدالعزيز، الذي ظهر في عصر سادت فيه أحداث وأوضاع ومظاهر من الفرقة والتشتت والتخلف والجهل والفقر، كان سابقاً لعصره بما أبداه في مسيرته من رؤية تستشرف المستقبل ومن سياسة حكيمة في سياسة الإنسان واستثماره البشري فيه، وبما قدمه من تجربة سياسية وإدارية مدهشة؛ بما حققته من منجزات عظيمة، على الرغم من قلة المال، وشح الموارد، وصعوبة المرحلة؛ إنساناً وبيئة وظروفاً ومكابدته لكم جم من العوائق المنيعة والعقبات الكأداء، التي استطاع بعون الله أن يتجاوز سدودها، وأن يتخطى حواجزها إلى مواقع أمامية، سابق بها الزمن في ذلك العصر العسير؛ لقد حقق الملك عبدالعزيز توحيداً فكرياً في إطار العقيدة الصافية، وحقق، عبر مساحة المملكة الواسعة الشاسعة بأطرافها المتباعدة، وقبائلها المتعددة المتنوعة وحدة وطنية سياسية لدولة عربية في بوتقة دولة إسلامية مكينة، تجاوز بها الأسرة والقبيلة، وحقق لها الرسوخ والثبات على أسس ومبادئ واضحة وتنظيمات تشريعية مستمدة من روح الشريعة المطهرة، وأحكامها الحميدة.
وأنجز الملك عبدالعزيز مشروعا حضاريا عظيما بكل المقاييس، تمثل في مشروع التعليم بعامة وتوطين البادية بخاصة، وإنشاء الهجر، وتوجيه حياة البدو الرحل نحو الاستقرار، والتوجه نحو التعلم والإنتاج المرتبط بالأرض والاستقرار والتمدن والاستمتاع بالمظاهر الحضرية وتطورها؛ هذا المشروع الذي سيظل، بما حققه من أهداف، مثار الدهشة والإعجاب.
وكان من أروع منجزاته العظيمة تثبيت أطناب أمن وارف عميم، وإقامة سلام اجتماعي حميم، وكذلك جمع المسلمين في المسجد الحرام في صلاتهم على إمام واحد، وفي صلاة واحدة، ترسخ وحدتهم وتجمع كلمتهم.
واجتهد في تحديث الدولة في أنظمتها الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية قدر المستطاع حسب ظروف الزمان والمكان والإنسان والإمكان، وأدخل في أدواتها وسائل عصره المتاحة من مثل الهاتف والبرقية والسيارة والطائرة و.... إلخ.
وأخذ بالأساليب الدبلوماسية الحديثة، وطور إدارات الشئون الخارجية؛ حيث حول مديرية الخارجية السعودية إلى وزارة أسندها إلى نائبه العام في الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز، واستخدم الخبرات السياسية المحلية والعربية، وراعي القواعد الدبلوماسية الدولية، وما يتصل بها من مراسيم، وما يتعلق بها من قرارات ومعاهدات. واعتمد في سياسته الخارجية على الصراحة والوضوح والانفتاح على كل ما فيه تحقيق مصلحة بلده ومواطنيه، ومصالح العرب والمسلمين، دون أن يفرط في استقلال قراره الوطني، ودون أن يسمح لأحد في التدخل في شئون بلاده، واستقبل الوفود الأجنبية، وحاورهم، وأقام العلاقات مع الدول بندية واحترام وواقعية، واستثمر تلك العلاقات في تحقيق مصالح بلاده وتطوير وسائل الحياة فيها بكل حديث وجديد مفيد لدى الآخرين، واستخدم ما لديهم من خبرات وتجارب في اكتشاف الموارد الاقتصادية للدولة؛ ومن ذلك اكتشاف النفط في المملكة بكميات اقتصادية هائلة، رفعت من قوة المملكة الاقتصادية، وعززت من مكانتها الدولية وتأثيرها وفاعليتها في اتخاذ القرار في الساحة العالمية.
إن الدولة السعودية التي نعيشها اليوم هي امتداد حقيقي وطبيعي لمسار الدولة السعودية التي أسسها الملك عبدالعزيز، وامتداد لمسيرتها، وسير على مبادئها القويمة ونهجها الثابت، وما أشبه الليلة بالبارحة، واليوم بالأمس، وإن اليوم المشرق بتقدمه وإنجازه سيكون غده بإذن الله تعالى وتوفيقه أكثر تقدماً وإنجازاً.