في غضون السبعينيات الماضية وما قبلها بقليل تهيأ، بفضل الله، لمعاهد اللغة العربية للناطقين بغيرها في المشرق العربي ومغربه إنجاز باهر مشهود في وقت وجيز انتقل به الدرس؛ منهجه وطرائقه إلى أفق جديد آخر. ذلك في مقارنة مع أزمنة متطاولة ظلّت تعبرها لغات أخرى قصد تطوير مناهجها وأساليب عرضها لغير الناطقين بها؛ فالمهمة أمام معاهد العربية كانت واضحة ومحددة، والنماذج متوافرة تنتظر حُسن الاقتداء بها. كانت اللغتان الإنجليزية والفرنسية للناطقين بغيرهما قد استقرتا آنذاك (على شيء من اختلاف) على نمط اتخذ قوامًا له من جملة مصادر في علم اللغة وفي علوم الجوار؛ علم النفس وعلم الاجتماع والتربية. وكان لمنهج اللغتين صداه العريض في لغات أخرى، ومنها العربية؛ ففي المغرب العربي كان النموذج الفرنسي حاضرًا في تجربة معهد بورقيبة لتعليم اللغات الحيّة ومقرّه تونس. وفي المشرق كانت تجربة معهد اللغة العربية بجامعة الملك سعود ناشئة في أجواء التجربة الإنجليزية (الأمريكية على وجه الخصوص إذ كان للتجربة البريطانية وجه آخر) وهي تجربة كان ربّانها وقائد مسيرتها أستاذنا الدكتور محمود إسماعيل صالح في ضوء اختصاصه بعلم اللغة التطبيقي من جورج تاون وخبراته بالتدريس في المركز الثقافي السعودي في واشنطون بإدراك عريض واسع لأوضاع العربية وحاجات طلابها.
قبل هذه الفترة بقليل لم تكن الساحة خالية من محاولات لتطوير المنهج والطريقة؛ لكنها اجتهادات ربما افتقدت إطارًا نظريًا جامعًا تصدر منه، فتاريخ تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في عصرنا الحديث يتضمّن محاولات الدكتور طه حسين وإبراهيم مدكور لبرنامج تعليمي بالمركز الثقافي المصري في إسبانيا في الأربعينيات، ومضت مدرسة الألسن كذلك خطوات ثم كان عملاً مميّزًا للدكتور علي الحديدي بإحدي الجامعات الأسترالية، وجهود هنا وهناك لم تبلغ أن تؤسس لمنجية واضحة المعالم. وجدير بالذكر ما كان يجري بتعليم العربية في مراكز أكاديمية وثقافية عبر أوربا وأمريكا تتقاسمها أجواء مناهج الاستشراق من جهة واتجاه إلى اللغات المحكية من جهة أخرى - لأغراض تخصّهم.
ما بذل في معاهد التعليم الرائدة بالبلدان العربية - وقد اتّسعت رقعتها من بعد، بمعاهد ومراكز بجامعات سعودية وعربية أخرى، وأخذت معاهد تدريب المعلمين بخاصة معهد الخرطوم (أنشأته المنظمة العربية للتربية منتصف السبعينيات لتدريب المعلمين) ترفدها بالمعلّم المؤهّل في علم اللغة وتعليم العربية، وعزم معاهد السعودية خاصة على استقدام قامات فارهة من مراكز عالمية للإسهام في تحديث المنهج والطريقة، وكم سعدنا في معهد جامعة الملك سعود بعلماء وأسماء ساطعة منها داود عبده وكمال بشر وحمدي قفيشة من جامعة أريزونا والحديدي وجواد الطعمة من انديانا وجورج سعد أحد النابهين من طلاب تشومسكي وحظي زملاؤنا أيضًا في معهد جامعة الإمام ومعهد أم القرى بعلماء بقامة تمام حسّان وعلماء يضيق المجال عن ذكرهم.
وفي جهد موفّق لتظفر تجربة العربية لغير الناطقين بمآلات التجارب العالمية لتعليم اللغات مجتمعة عقدت جامعة الملك سعود الندوة العالمية الأولي لتعلم العربية لغير الناطقين بها، حيث استدعى الدكتور محمود مدير المعهد ركائز تعليم اللغات الأجنبية من سائر مراكزها العالمية، ليصبح سجل تلك الندوة معلمًا يستعان به في محاوره المتنوّعة.
وجملة القول إن تلك المعاهد الرائدة وقتها، وقد سطعت أنوارها في أرجاء واسعة من العالم إيواء لطلاب اللغة ونشرًا لبرامج التعليم وتدريبًا للمعلم في سائر مكونات الدرس وابتعاثًا لخبراء قد أحدثت تطورًا بل تحوّلاً جذريًّا في تعليم العربية لغير الناطقين بها، وألحقت اللغة العربية بأحدث معايير تعليم اللغات للناطقين بغيرها؛ مادةً تعليمية وطريقة للتدريس وأساليب وإجراءت، إلى غير ذلك من مكونات عملية تدريس اللغة الأجنبية. وجملة القول إن تلك المرحلة التي تمتد إلى نحو ثلاثة عقود تقريبًا قد أفرزت تلك النتائج في ضوء قضايا تعليم اللغة الماثلة وقتها - فانتظم قوام درس اللغة بمادته التعليمية ومواقفه وموضوعه وأنواع تمارينه وتدريباته ووسائله التعليمية، فدعنا نقول إذن - لقد تيسّرت المداخل إلى لغة (صعبة). وهو وصف للغة العربية شائع يتصدّر معايير تصنيف اللغات العالمية بغير استثناء، إذ تصنّف بلا خلاف ضمن المجموعة بالغة الصعوبة التي تضم ثلاث لغات هي اليابانية ولغة ماندرين والعربية. وتكرار وصف اللغة بالصعوبة في إجماع لمعايير التصنيف وبالتالي عسر تعلّمها لا يضير العربية في شيء؛ فإن لغة بحمولتها البيانية لا يكون لها أن توجز أصواتها وقواعدها وأساليب بيانها شأن لغات لا تُحظى بميزاتها العالية، ذلك من جهة، ومن جهة أخرى، ولأغراض تعليمية يلزم أن تتضافر جهود لتيسير تعلمها في هذا الظرف الذي يشهد إقبالا غير مسبوق لتعلمها، ليس فى مراكزها التقليدية فحسب بل في مجتمعات أخرى على مستويات أكاديمية واجتماعية. وتجد تيسيرًا موفقًا أنجزته بإتقان معاهد تعليم العربية المار ذكرها بأن وطّأت درس اللغة بمكوناته اختيارًا لمادته وموضوعه وإحكامًا لمعايير اختياره ونظام تدرّجه وقد بدا لي من طول اتصالي بفئات مختلفة خاصة من المبتدئين في التعلّم في أوضاع مختلفة ومن لقاات وإفادات لهم ورسائل إلى منظمات ومراكز ومناشدات يبثونها على مواقعهم أنّهم يطمحون إلي مرمىً في التيسير أبعد وقد تكفّلت بأن أحمل مجتمع آرائهم إلى الزملاء المعلمين بمعاهد اللغة للناطقين بغيرها، آملا أن يتم حولها تبادل آرائهم مما أرجو له أن يكون اتصالاً لدور يضاف إلى إنجاز تاريخي لمعاهدهم في ريادتها الباكرة، تعاطيًا مع قضايا تلك المرحلة حول المنهج والطريقة. ولعّله يُتوّج بإنجاز لها الآن حول قضايا أخرى بدت تستجد من طرف الدارسين. وأشير إلى أن أكثر ما سيرد في هذه الإفادات أوبيها به يجد القارئ إشارات له على مواقع الشبكة الدولية يبث طلاب مبتدئون عسرًا يلقونه في تعلّم مبادئ اللغة بما دفعهم إلى العزوف عن تعلّمها في غالب الأحيان، وستلاحظون على محركات البحث أن معظم الإفادات والشكوى تبدر من طلاب جامعات غربية اختاروا العربية أولاً ضمن مطلوبات أقسامهم في لغة أجنبية ثم اضطروا كما يروون إلى أن يستبدلوا بها خيارًا آخر لوعورة فيها بدت لهم في نظامها الكتابي وصعوبة نطق أصواتها وتعقيد نظامها النحوي ودرجة إتقان الأداء المطلوبة منهم لاجتياز الدرس، فضلا عن الإشكال الراتب ألا وهو الازدواجية اللغوية. ويلمح بعض من تقدم خطوة في تعلّمه إلى أمانيه في أن يلقي عن كاهله هذه الحوارات والنصوص المصنوعة بمعمارها وتمارينها الرتيبة إلى قراءة مقدمات لنصوص عربية أصيلة.
وفي تداول مع أصدقاء من قدامى المعلمين بدت بعض آراء لا بأس من البدء بها، وتوخّيا للاختصار سأجعلها في هيئة أسئلة موجزة بأمل إسهام حولها من قبل الأساتذة والمعلمين من هم في محيط التجربة الآن، بخاصة في معاهد تعليم اللغة وهم الأقدر على تصوّر وجاهة الرأي أو تعديله أو إسهام برأي غيره.
1 - لتفادي صعوبة وصل الحروف وتنوّع التعريقات الرابطة هل يمكن بدء الدرس الابتدائي كتابةً بحروف منفصلة؟
2 - هل يمكن اتخاذ صورة واحدة لكتابة الهمزة باعتبارها حرفًا؟
3 - هل يمكن التجاوز (بداية الدروس فقط) في تمييز نطق الشمسي/ قمري؟
4 - هل يمكن (مؤقتًا) إسقاط الحروف غير المنطوقة وتأجيل كتابتها إلى مرحلة تالية.
5 - هل يمكن (مؤقتا) رسم علامات تشكيل الحروف على السطر - أفقيًّا عوضًا عن الرأسي؟
6 - لتفادي خلط المتشابه من الحروف هل يمكن تقديمها بالأبجدية بدلا من الألفبائية؟
7 - هل نجيز أداء الأصوات بتحريفها دونما اعتبار للدقة من أجل تحقيق اتصال باكر بل لماذا الحرص على الدقة أصلاً؟
8 - لطلاب جامعيين ماذا يضير أن نبدأ لهم ببنية الجمل العربية في إطار محدود من أقسام الكلام في مقارنة مع الجمل النظيرة في لغاتهم؟
9 - طلاب راشدون يتحسسون بنية النحو هل يفيد شيئًا أن نحادثهم أن الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف؟ وفي لغاتهم الأمر غير ذلك.
10 - ماذا يضير (في حال رغبتهم) أن نذكر لهم المقابل العامي لكلمة فصحى يدرسونها الآن - متى رغبوا في ذلك وسمعوه من زملائهم الناطقين بالعربية؟
11 - هل هناك مشروعات لتبسيط كتب اللغة بما يناسب المستويات المتعاقبة؟ (ليس مقصودًا تلخيص الكتب، بل التبسيط بقواعده المتّبعة في لغات أخرى.
12 - ما مدى دقّة الأداء المرجوّة من الدارس قبل تكليفه بتواصل حر؟
13 - لأي مدى يكون التزام المعلّم بالكتاب التعليمي ومتابعة فقراته؟
تلك بعض خواطر مستجمعة من آراء بنت لحظتها لقدامى معلمين في جلسة عفوية رأيت أن أشرك في قراءتها المعلمين الأفاضل في معاهد تعليم اللغة فربما أوحى بعضها بفكرة ما.