د.فوزية أبو خالد
هذا هو المقال الختامي من شهادتي على تعالق اللون والريشة وتشابك الحلم والوطن في سيرة الفنانة منيرة الموصلي التي تكونت من أربع مقالات..
قطرة عاشرة
وللعلم فإن هذا الكم النوعي الكبير جدًا الذي ذكرت آنفًا من اللوحات التشكيلية بأحجام وأشكال متفاوتة من ما يقارب الجداريات إلى ما يقارب حجم ورق الكتابة, وبمراحلها المتواترة تصاعديًا المتراوحة بين طيش التجريب وبين حرفية التمكن لتجربة فنية معمرة يتعدى عمرها ثلث قرن لا يعتبر الثروة الوحيدة التي تركتها منيرة بل هناك روافد صغيرة أخرى وعلينا واجب العمل بوعٍ على ألا يهدر أو يضيع أي منها بل يوثق ويعز ويحفظ كجزء من ثروة الوطن التشكيلية للفن الحديث.
ما هي هذه الروافد التي تشكل مع لوحاتها الكثيرة العطاء السخي الذي كتبته منيرة باسم الوطن؟
هناك والله البيوت التي سكنتها الفنانة منيرة الموصلي أو تنقلت بينها وكانت بصدق وبعين خبيرة في الجمال عبارة عن متاحف إبداعية بكل معنى الكلمة سواء في أثاثها ومقتنياتها الفنية العربية والعالمية الكثيرة أو في تحفها ونفائسها من إنتاجها وإنتاج سواها من الفناننين العرب والأجانب. بل إن شغف منيرة الموصلي بالفن وإدراكها المخلص لتعالق الفنون قد جعل من ملابس منيرة الموصلي نفسها لوحات فنية ناطقة بلغات عدة وبمدارس عدة من المدارس الفنية العريقة للأزياء وللتشكيل معًا بشكل ممثل لطيف واسع من البلدان والحضارات من اختياراتها للنسيج لاختياراتها لتصاميم الفساتين والشالات والعباءات والمناديل والأحزمة التي اشتهرت بألوانها الدافئة والصاخبة. فكان كل فستان من فساتينها سواء كان من المخمل أو الصوف عمل تشكيلي مستقل بذاته.
وهذه لعمري ثروة ثقافية وثروة وطنية لها قيمة تضاف لقيمة لوحاتها التشكيلية.
قطرة ليست أخيرة
وهنا أتمنى على وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله آل فرحان وأتوسم فيه أن يعطي انتباهه لما أريد أن أقوله هنا: «إن لوحات منيرة الموصلي التشكيلية التي تُعَد بالعشرات إن لم يكن بالمئات، مقتناياتها الإبداعية عربيًا وعالميًا، كتاباتها التنظيرية في مدارس الفن التشكيلي, أغلفة الكتب الأدبية التي رسمتها، الكتب الفنية التي كتبتها بالريشة والقلم وسواه من إنتاجها الفني والفكري، متاحفها المنزلية، تصاميمها التراثية والحديثة العربية والعالمية من الأثاث ومن الملابس (ملابسها الشخصية), إضافة إلى فضتها وعقودها وخواتمها ومراود كحلها ومكاحلها مما كانت تشتهر به لفنيته العالية... كلها قصائد شعرية عليها بصمة وأنفاس وتوقيع بنت كانت نسيج وحدها بما أعرف غالبيته جماليًا كما أعرف عروق قلبي في تراب البلاد وهي ثروة حقيقية لتعتز بها الثقافة وليتباهى بها الوطن... لا لتتناثر أو تندثر أو يجري التصدق بها الخ.. (وإن كنت في مطلبي هذا أغلب العقل والعاطفة وإلا فإن قلبي ليكاد ينفطر في حديث هذه الفقرة بالذات).
إذن لا بد قولاً وفعلاً و(بلغة السياسة الإدارية قرارًا وتنفيذًا) يا معالي الوزير من العمل وبمنتهى الاجتهاد والجدية والبحث المعمق على تأسيس متحف باسم الفنانة منيرة الموصلي وليس مجرد تسمية صالة عرض باسمها. ففكرة بناء المتحف وحدها التي تتيح المجال للحفاظ على تلك الثروة الثقافية والفنية التي بنتها الفنانة منيرة الموصلي قشة قشة وريشة ريشة بكل ما أوتيت من طاقة شاسعة وقدرة فائقة على حب الفن التشكيلي وعلى العمل المخلص لترسيخه في الثقافة العربية وفي المجتمع العربي السعودي كشكل جديد وكمضمون مستنير منحاز لكل مكارم الأخلاق.. المساواة والكرامة والاستقلال والحرية والسلام للإنسان وللأوطان.
إن كل مدن العالم التي زرتها أو قرأت عنها من غرناطة إلى نيويورك، والتي لابد أن الوزير الشاب ملم بها, تحفل بمتاحف الفن التشكيلي بمدارسه ورموزه كما تحفل ببيوتات المفكرين والكُتَّاب والشعراء والموسيقين وسواهم من أعلام الثقافة.. همنجواي، مارك توين, وليم فولكنر وسواهم بأمريكا، الموسيقي موزارت بسالزبرغ، الروائي البرتو مورافيا بروما, الشاعر لوركا بأسبانيا, بينما نحن رحلت عنا قامات تاريخية وفي العصر الحديث ولم نحفل بحفظ ريشة أو بصمة من أثرها.. فلا عبدالحليم رضوى في التشكيل، ولا طارق عبدالحكيم، عمر كدرس وسواهما في الموسيقى، ولا محمد حسن عواد ولا حمزة شحاتة ولا إبراهيم خفاجي صاحب النشيد الوطني في الشعر ولا عبدالرحمن منيف في الرواية، ولا د. غازي القصيبي في الفكر والسياسة والإدارة وفي الشعر والنثر لهم متحف أو توجه بتحويل بيوتهم إلى معالم.
ولهذا فمطلب تبني فكرة إقامة متحف للفنانة التشكيلية منيرة الموصلي وباسمها الذي أقدمه هنا، خاصة وأنا ألفت النظر لما يمكن تحريه مما «لا أقول تركته» بل أقول جهدت تلك الفنانة في إنتاجه وإبداعه واختياره, هو مطلب ومقترح لحوح أوجهه لوزير الثقافة. ولا أظن ذلك يصعب عليه. ولا أظن أن من أسرة منيرة الموصلي إلا وسيقدم كل الدعم لقيام مثل هذا المتحف التشكيلي العام خصوصًا أن الفنانة منيرة الموصلي تنتمي لعائلة ولكوكبة من الإخوان والأخوات الذين يقدرون قيمة الفن ويعرفون قيمة منيرة التشكيلية والإنسانية. ولا بد أن أؤكد أن هذا المطلب الذي آمل من أعماقي أن يرى النور لا يمثل فقط رأيًا شخصيًا منحازًا لمشترك الزمالة بين الأطياف، كما لا يمثل مجرد استجابة لموجدة الوفاء لتلك السيدة التي نذرت نفسها لحبين حب الفن وحب الوطن ولكنه أيضًا يمثل موقفًا حضاريًا لاغنى عنه إن كنا جادين في توجه تنمية الثروة الثقافية للبلاد ورد الاعتبار لرموزها وشحذ طاقات إبداعية جديدة لجيل الشباب.
ولا أنسى أن أذكر أن لمنيرة على شركة أرامكو حقًا وربما يكون مركز الملك عبدالعزيز الثقافي هو الجهة المرشحة لتحمل مسؤوليات ذلك الحق من خلال التفكير في ضم عدد من إنتاجها التشكيلي وكتبها لتكون معلم رمزي من معالم الاحتفاء بريادات إبداعية وإنسانية من الطلائع الأولى لنساء ورجال هذا الوطن في الحقبة التاريخية المعاصرة.