د. خيرية السقاف
كثرا ما تراودني تلك الطفولة المفعمة بحكمة نوارة، ففي حديقة بيتنا الصغيرة ذات النافورة والزهور، وبراح العشب الأخضر، المكللة حوافه بشجرات الجوافة، والليمون، والبرتقال، والسدر، والسنديان، حيث أتخيلني في عالم شاسع لا حدود له، وتحديدا حين أضع قدمي في ماء النافورة المتحرك حولهما، وأتخيل أنها أمواج بحر هائج كبير، فيأتيني صوتها «نوارة» وهي تقلم شجر الجوري، وتقطف زهرات الليمون تقول لي: «اصغي لحركة الماء، لحفيف الشجر، لزقزقة العصافير، ولا تنسي أن تميزي بينها»، واستقرت لفتتها تلك في خزينة أفكاري، وكنت كثيرا ما أقلبها في ذهني حين آوي إلى النوم، لماذا تطلبني الإصغاء، وتذهب بعيدا لمطالبتي بالتفكير فيها؟!..
حتى أدركت ما وراء هذا بعد أن كبرت قليلا، وقدرت أن أمسك القلم وأكتب فقالت لي: «سجلي ما تشعرين، وما ترين في دفتر خاص، ولا تنسي أن تحتفظي به» سألتها لماذا؟! ابتسمت، ثم قالت: «ليبقى معك الذي ضاع مني»، وحين ذهبت أحمل دفتري الصغير في المدرسة لأسجل فيه كل الذي يعبر بي في طريقي إليها، وإيابي منها، ولا أكل عن التدوين عما أسمع فيطربني، أو يوجعني، وعما أرى من مواقف تعبر بي في المدرسة، والشارع، وسواهما مما بعضه يضحكني، وآخر فيه يبكيني، أدركت الذي وراء بعد نظر وحكمة «نوَّارة»، فالتدوين معين كبير للذاكرة، ومنجم للمفارقات، ومصنع للمبادرات، ومستودع للأفكار، إذ كثيرا ما كانت محتوياته فيما بعد خامة لفكرة مقالة، أو قصة، أو شذرات أدبية، وكثيره باق في سطور أوراقي بطياتها الساكنة..
ما نسيت أن أدرب أبنائي على أن يكونوا يقظين للحفيف، وللحركة، وللسكون، وللضوء، وللظلمة، وللدعسة، للملامح، والتفاصيل، والكليات، والأصوات، والعبارات، ولغات الكائنات، ولمكنون كل فراغ، ولمحتوى كل طريق، تكون لها عيونهم لاقطات، ودواخلهم مشرعة بوتقات، وأقلامهم على أهبة تدوينها في دفاترهم الصغيرة المرافقة لهم بكل الذي يعبر بهم منها، ويلفت انتباههم فيها..، ثم امتدت «نوَّارة» بجملتها إلى طالباتي في الجامعة حتى وجدت بعضهن يطلعنني على ما يدوِّن، وما تتفاعل به أفكارهن،
وكثيرا ما أطلعتني منهن على مدوناتهن بعضها في دفتر مزخرف برسوماتهن على غلافه، وفي داخلها شذرات، وعبارات، وسطور طويلة، وقصيرة، معنونة بتواريخ تدوينها لمواقف مرت بهن مذ أخذن في التدوين، وفي أسفارهن حصاد السنوات التي بيننا، حصاد زاخر بالفكرة، وفلسفة الموقف، وبعد الغوص في الذي مرت به كل واحدة منهن، بلغة موحية، وعبارات أخاذة، بعضهن الآن مبدعات يشار إليهن بالبنان، في مجال إبداعات مختلفة!..
الشاهد، أن دروب النبض في طرق الحياة لا تفضي بسره في لحظة حركتها، لكن السكون حيث تنزل، كفيل بقلب الإناء الذي استقر فيه، ودلقه ليتحول لأجنحة ..
فالخفق الخفي هو الحقيقة لكل سكون ينضج بمؤونته، ليصبح التفسيرَ لتأويل الحياة،
هذه التي لا تدور حول نفسها، لكنها تمتد إلى لا نهاية، للتمايز بين الموت، والدوام..
لله ما أصدقك يا «نوَّارة» مع «الحقائق» تلك التي تصنع الواقع في بوتقة تفاعلها..