إبراهيم عبدالله العمار
2008م، صار العالم مدنياً لأول مرة. «مدنياً» أي يسكن المدن، فالمناطق الريفية طالما حوت الناس، لكن منذ آنذاك فَقَدَ الريف أهله الطالبين القُوت في المدن والتي أيضاً شهدت انفجاراً سكانياً، ولهذا الانفجار والهجرة تأثيرات كبيرة، من أهمها: كيف ستكون المُدن؟ أستتحمّل الزيادة؟ أستكون مكاناً مستقراً؟ أم أكثر اضطراباً؟
لدينا مدينتان متعارضتان في النتيجة رغم تشابههما في كل شيء آخر تقريباً، وهما المذكورتان بالعنوان. لنبدأ بسنغافورة.
سنغافورة هي دولة مدينة (أي دولة مستقلة تتكون من مدينة واحدة) قرب ماليزيا، تتكون من جزيرة أساسية وجزر صغيرة، كانت مستعمرة بريطانية. من أصغر دول العالم، مساحتها 720 كم مربع فقط (الرياض 1800 كم مربع). رغم هذا، وقلة مواردها الطبيعية، وانعدام الوقود الأحفوري كالبترول والغاز الطبيعي، فإن هذه الدويلة نهضت نهضة أدهشت العالم. زاد عدد السكان بتسارع حتى وصل إلى 5 ملايين. صارت من بؤر آسيا في شؤون الخدمات والتقنية والمالية. صارت مركز تصدير عالمياً لقطع الإلكترونيات. لديها المرفأ الأكثر انشغالاً، حتى إن لديها أكثر من 600 شركة شحن. لا نفط لديها ورغم ذلك هي من أكبر الدول التي تصفِّي وتوزِّع النفط. تجذب المستثمرين في الصيدلة والطب والتقنية الحيوية. إجمالي الناتج المحلي لسنغافورة عام 2008م هو 192 مليار دولار (أكثر من سبعمائة مليار ريال)، وهو يفوق دولاً أضخم كالفلبين وباكستان ومصر. هي من أكثر دول العالم استقراراً ورغداً، والدخل السنوي من أعلاه في العالم، يُقدَّر بأكثر من 15 ألف ريال شهرياً للفرد. رغم اختلاف الأديان (نصراني، بوذي، مسلم، هندوسي) والأعراق (مالاي، صيني، هندي) إلا أنهم يعيشون بوئام. النقل العام بالغ الكفاءة والنظافة. عدد ضخم من المنتزهات الخضراء والمسارح والمتاحف. رعاية صحية ممتازة ومعدل الأعمار من أعلاها في العالم. النزاهة والتطبيق الصارم للقوانين جعلها من أضبط دول العالم، ومحا بشكل شبه كامل الفساد والجريمة وتجارة المخدرات والدعارة.
نعم، من يرى سنغافورة سيتفاءل، وربما يظن أن زيادة السكان والهجرة للمدن يمكن أن تكون نعيماً، لكن دعونا ننظر للجانب الآخر، إلى مدينة لاغوس في دولة نيجيريا، والتي تشبه سنغافورة في عوامل كثيرة، فهي أيضاً مدينة ساحلية ولديها مرفأ، مبنية على جزيرة، وكانت مستعمرة بريطانية. ظلت قروناً من أهم المرافئ التجارية في غرب إفريقيا، وصدّرت العاج والفلفل والنفط. استقلت من بريطانيا في نفس السنة: 1960م. كلاهما يقع شمال خط الاستواء بقليل، في طقس رطب استوائي. كلاهما ديموقراطي. زاد عدد سكان لاغوس أكثر من سنغافورة. إجمالي الناتج المحلي لعام 2007م: 220 مليار دولار، أكبر حتى من سنغافورة.
لكن... هنا تنتهي التشابهات. لم تعرف لاغوس تتعامل مع زيادة السكان، فهي شديدة الامتلاء ولا فراغ فيها، حتى إن الناس يعيشون في قوارب بلا كهرباء ولا تصريف. هي جحيمٌ من الاختناقات المرورية والوساخة والفساد والقتل والمرض. معدل الرواتب 690 ريالاً شهرياً. نصف النساء أميَّات. المجرمون أعظم عدداً من الشرطة العاجزة. أنوار الطرق ذهب أكثرها، الشوارع متكسِّرة ومكتظة، النفايات تتكوَّم ولا عمال نظافة، الجريمة العنيفة جزء من الحياة اليومية، المكتبات والمسارح اندثرت، شبكة الصرف الصحي معدومة، إذا نزل المطر يملأ المجاري ثم يحمل الفضلات إلى البيوت فيغمرها. لا يجدون الماء إلا بآبار أو صنابير عامة في الشارع، الماء غالباً ملوَّث وهكذا انتشرت أمراض مثل حمى التيفوئيد والملاريا وإنفلونزا الطيور وحتى الإيدز. معدل الحياة 47 سنة فقط (سنغافورة: 82 سنة). الرشوة والابتزاز في كل مكان. فساد الشرطة وعجزهم أظهر فئات من الناس اضطرت لمكافحة الجريمة بنفسها، يحملون السلاح ويحمون أحياءهم.
عدد البشر عالمياً في تسارع هائل وسيصل إلى 9 مليارات عام 2050م ، وطريقة سنغافورة رائدة في التعامل مع تحديات كبيرة مثل الانفجار السكاني، والهجرة، والتنوّع العِرقي والديني، وشحّ الموارد الطبيعية.