د. حسن بن فهد الهويمل
الحربُ - أيُّ حربٍ - سواء كانت دفاعاً عن النفس، كما هي في [الحد الجنوبي]، ومهمات التحالف العربي.
أو اندفاعاً بالنفس كما الحروب الطائفية، والمذهبية، والعرقية داخل الوطن الواحد.
هي في النهاية حرب:-
[وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ].
وليست الحرب خياراً أولياً للعقلاء، ولكنها اضطرار:-
إذَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا الأَّسِنَّةُ مَرْكباً … فَمَا حِيلةُ المُضْطَرِّ إلَّا رُكُوبُها
[الأمة العربية] لديها قابلية لكل المشاكل. و[الغرب] المستبد لديه استعداد كامل لملء فراغات الأمة بالويل، والثبور، وعظائم الأمور.
و[المستغربون] مهنتهم التعذير، والتبرير، وتخوين الذات، واستعداء دول الاستكبار بتحميل [المؤسسات الدينية] مسؤولية صنع الإرهاب، ظنا منهم أن ماعند الآخر من مدنية، وتقنية، وحرية ستنتقل إليهم لحظة الثناء، والتبرير، وإدانة الذات.
الحروبُ الداخلية المجانيةُ التي تباشرها المكونات السكانية، فيما يسمى بـ [الربيع العربي] يُشْتَرَى سلاحها بِخُبز الجياع، وأَلْحِفَة المقرورين، وعلاج المرضى، تواكبها حروبٌ كلامية، لاتقل عنها خطراً، ولا أثراً، يمارسها المتنخوبون.
ولقد يكون صدام المبادئ، والأحزاب، والطوائف من معوقات الوفاق، ومذكيات الصراع بشقيه:- صراع اللسان، والسنان.
أمتنا العربية بحاجة ماسة إلى مراجعة النفس، وتقويم المواقف، وتهيئة الأجواء بالجنوح إلى التعايش، والتعاذر، والقناعة بأيسر الحلول. وتغليب الوئام على الصدام، والتعايش على التناوش.
لقد طَرَدَت الأمةُ العربية [الاستعمارَ التقليدي]، وعاش شبابها أوهام القومية، والحرية، والوحدة، والاستقلال.
وبالاستقلال الصوري استعادت [الدول العربية] بعض حقوقها، واستولت على مواردها الطبيعية، وكان بالإمكان وضع أنظمة، ودساتير، لترشيد المسارات، وإرشاد القيادات.
ولكن الاستعمار الذي فقد السيطرة، والخيرات عبر الثكنات، والمناديب دَبَّرَ مكيدة [الانقلابات العسكرية]، التي حكمت شعوبها بالحديد، والنار، وحرمتهم من أبسط حقوقهم.
وكلما جنح بعض الانقلابيين إلى المأسسة، والإصلاح تمرد [فصيل عسكري] عميل في الهزيع الأخير من الليل، وهدم القصور على أصحابها، وقاد الأحياء إلى السجون، تحت مسميات الخونة، والعملاء، وأجريت لهم محاكمات صورية خاطفة، ثم اقتيدوا إلى المشانق.
حتى لقد أصبح [التاريخ العربي] الحديث حافلاً بالشتائم، والاتهامات، والتصنيفات.
واقع الأمة العربية مرتبط بالمصالح العليا لدول الاستكبار، فالدول الكبرى تصنع اللعب لأغراض شتى. وأبناء البلاد يستبقونها، كما الخيرات، ليظفروا بالوعود الطوباوية.
لقد تحولت الحروب الداخلية، والبينية إلى أوراق اقتصادية. فالدول الكبرى وإن اختلفت فيما بينها، لها مصالح عليا مشتركة، لاتسمح بتجاهلها.
هي في صراع بيني، ولكنه محكوم بضوابط، تكشف عتمتها النوازل، ويَتَسرّبُ بعضها من قبل الخارجين من السلطة.
المذكرات، والسير الذاتية التي يكتبها القادة، أو تكتب لهم، تأتي في بعض سياقاتها فلتات ألسن، تنطوي على شفرات، يمارس تفكيكها المشتغلون بالسياسة، وأوضارها.
الحرب - أي حرب - لا تقوم اعتباطاً، إنها جزء من اقتصاديات العالم، ومصالحها، تُفرض على المسالمين، بتضييق الخناق عليهم، وتهديد حدودهم، وتحريض عدوهم.
دول كثيرة تصنع السلاح التقليدي، ويقوم اقتصادها عليه، وهي تبع لدول الاستكبار، تُصوت لصالحها، وتسعى في ركابها.
وما لم تقم الحروب الداخلية، والبينية كسد السلاح، وانهار اقتصاد صُنّاعه، ولهذا تُفْتَعَل المشاكلُ، ويُزَجُّ فيها الأبرياء، لسد حاجات الأصدقاء، والعملاء من صناع السلاح.
الحرب لا تكون مشروعة إلا لطرف واحد، فهي كالحق، لايتعدد وإن تعددت الاجتهادات.
إن بإمكان [الأمة العربية] أن تتخلص من لهب اللعب. وذلك بارتداد حكوماتها إلى الداخل، وتعزيز اللحمة القُطْريّة، وإشاعة التسامح، والتعايش، وتمكين الفرقاء من العيش المشترك.
لابد من إشاعة مفهوم المواطنة القطرية في ظل التعددية المذهبية.
لقد تشبعت المكونات السكانية بالأحقاد، والضغائن، وفرقتها الأعراق، والمذاهب، وأصبح الوطن الواحد غابة وحوش، متنافرة، تملأ الرحب بالأصوات، والأشلاء.
وسَكَّ صناع اللعب مصطلحات بعيدة المنال، كـ [الأممية]، و[الخلافة]، و[الجاهلية]، و[قَتْلُ الكافر] وإن كان مُعَاهِداً. و[نُسِفَت العهود]، و[المواثيق].
وتجاهلَ الناسُ مفهوم [البيعة الشرعية]، ومحققاتها. ونسوا أن [المجتمع المدني] في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم اتَّسع للمهاجرين، والأنصار، واليهود، والمنافقين. وتفادى رسول الرحمة أن يقال عنه:- [إنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابَه].
ونسي الغلاة، والمتطرفون، والمتشدِّدون آية:- {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. كما لم يفرقوا بين [الحب الجِبِلِّي]، و[الحب العَقَدي]. فالحب الجِبِلي تقره، وتقرره آية:- {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}.
فالزواج من الكتابية يقتضي الحب، والمخالطة، والإنجاب، وإن بقيت على نصرانيتها، أو يهوديتها، وهذا تأكيد للنجاسة الحكمية، لا العينية.
لو فُهم الإسلام على مراد الله، لدخل الناس في دين الله أفواجاً. إنه دين الشمولية، والعالمية، القادر على معالجة كل النوازل، والتطبيع مع كل النحل، والملل، واستيعاب الإنسانية المكرمة.
المفاهيم الخاطئة للإسلام شَرْعَنَت لقوى الطغيان مواجهته، لأن خطابه بهذا المفهوم المنحرف عدواني، تحريضي، إقصائي، إكراهي:- {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}.
من حواضن الفتن، والحروب جهل المأمور به، والله سبحانه وتعالى يقول:- {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، ويقول:- {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ويقول:- {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.
إن بإمكان أمتنا العربية المنكوبة بمكوناتها السكانية أن تعيد صياغة الأذهان، والتصورات، وأن تحول بين مصالحها، ومثمناتها من جهة. وشهوة التدمير، وتسويق السلاح من جهة أخرى.
حاجتنا، وخلاصنا في الارتداد إلى الداخل، والاشتغال بعيوب الذات، وبناء الكيانات على هدي من المواطنة الصالحة، الواعية لمهماتها، وواجباتها، وأولوياتها.
احترام الحدود القطرية بوصفه واقعاً لامناص منه، واحترام السيادة، وحق الوجود الكريم الآمن، واحترام التعددية بوصفه ناتج اجتهاد معتبر، يحول دون الحرب.
لن تنتهي الحروب، مادامت أمتنا أوزاعاً، وشيعاً يضرب بعضها رقاب بعض. ومن لاينطق عن الهوى يقول:-
[لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكمْ رِقَابَ بَعْضٍ].
الصلح، والتصالح، والإصلاح هو الخيار المفتوح:- {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}، أما القتال فعند البغي، حتى يفيء الباغي إلى الحق، وقبول الصلح.
وعلينا في ظل هذه الظروف المأزومة استعادة آية الطائفتين من المؤمنين. [الجاهلية] تتجسد بشاعتها في البحث عن دواعي الفرقة المتمثلة بتصنيم الذات واحتقار الآخر، واحتكار الحقيقة:- [كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ].
إبليس وحده الذي ادَّعى الخيرية. تفاضلنا بالتقوى، وخيريتنا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والامتثال لأمر الله.