أ.د.عثمان بن صالح العامر
أراد ساسة العولمة وفلاسفتها ومنظروها ومثقفوها وإعلاميوها - المبشرون بها والمصفقون لخطواتها المتسارعة في عالمنا المعاصر - عشية ميلادها أن يسوقوا الشعوب سوقاً للإيمان المطلق بثقافة عالمية واحدة يعتنقها الجميع ولا يُقبل منهم غيرها، وكان في هذا الطرح العالمي - الذي اعتقد الكثير من المفكرين حينها أنه شر- شيء من الخير، إذ بدأ الساسة والأكاديميون المختصون والمثقفون والكتاب هنا وهناك ينبشون كتبهم، ويفتشون في تراثهم عن ملامح ومعالم خصوصيتهم الثقافية، ويعيدون قراءة تاريخهم الثقافي، ويستكشفون سِيَر أعلامهم الأفذاذ الأحياء منهم والأموات، فضلاً عن أنهم أضحوا يغازلون الثقافات الأخرى التي وجدوا أن لهم معها تاريخا، وأن لدى شعوبها قابلية للتعاطي والحوار، خاصة تلك التي لم يكن بينهم وبينها صدام وتدافع وخصومات، وساعدت الثورة التقنية ووسائل الإعلام الجديد على ردم الهوة وتقريب الفجوة وتقصير المسافات وتجاوز الحدود وتذليل العقبات، حتى تحقق شيء من التعارف العالمي باعتباره العلة المنصوص عليها في كتاب الله عز وجل للتنوع الإنساني الذي هو قدر من أقدار الرب سبحانه وتعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .
ومن هذه الثقافات ذات الخصوصية التاريخية، والقدرة على البقاء والفاعلية والتأثير العالمي حاضراً ومستقبلاً الثقافتان «العربية/ الإسلامية» التي تمثله اليوم المملكة العربية السعودية بلد الحرمين الشريفين خير تمثيل، و»الصينية/ الكونفوشية» التي تمثلها في وقتنا الحالي جمهورية الصين الشعبية.
لقد قال الرئيس الصيني «شي جين بينغ» إبان زيارته للمملكة العربية السعودية ولقائه بأمين عام التعاون الإسلامي إياد أمين مدني مطلع هذا العام 2016م: «... يتعين إجراء المزيد من الحوار بين الثقافتين الصينية والإسلامية»، ويأتي اليوم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد الأمين ليعلن إبان زيارته الرسمية لجمهورية الصين الشعبية عن ميلاد مشروعه الثقافي العملاق الهادف في إطاره العام إلى مد جسور التعاون والتبادل الثقافي بين ثقافتين وحضارتين ذواتي جذور مترسخة، ولها عمقها الزماني والمكاني والبشري - كما هو معلوم - . وحين يطلق هذا المصطلح (التبادل الثقافي) فهو يعني باختصار: «انتقال الثقافات بين الأمم عبر الوسائل المشروعة والإرادة الحرة لكل أمة في اختيار ما يناسبها»، وهذا يعني أن المصطلح يحمل معنى التقابل، والأخذ والعطاء بشكل متبادل، والاختيار بوعي من قبل طرفي مشروع التبادل الثقافي لما يتناسب ويتفق مع المرتكزات الأساس التي يقوم عليها المجتمع، ويلبي ويفي باحتياجات المرحلة.
ويتطلب قيام التبادل الثقافي بين هاتين الثقافتين وغيرهما:
* وجود الإرادة الكاملة لدى الطرفين.
* تحديد الوسائل المشروعة لانتقال الثقافات.
* مخاطبة العقل أساساً ومنحه فرصة كاملة للنظر والفهم والحوار والنقد.
هناك في حقل الدراسات الإنسانية عدد من المصطلحات ذات الحمولة الدلالية التي تتقاطع مع هذا المصطلح وتقترب منه، وأشهرها على الإطلاق «المثاقفة» الذي ابتدعه الأنثروبولوجيون الأمريكيون عام 1880م والذي يعني: «تبادل ثقافي بين الشعوب المختلفة على كافة مستويات التأثر، والاستيعاب، والتمثل، والتعديل، والرفض من وجهة النظر النفسية والاجتماعية أو الأنثروبولوجية أو التاريخية»، وقيل المثاقفة: «مجموعة من الظواهر الناتجة عن اتصال مباشر ومتواصل بين أفراد ينتمون إلى ثقافات مختلفة، مع ما يترتب على ذلك من تغيرات في الأنماط الثقافية لهذه المجموعة أو تلك»، ومن أشمل التعريفات قول من قال إن المثاقفة هي: «مجموعة التفاعلات التي تحدث نتيجة شكل من أشكال الاتصال بين الثقافات المختلفة كالتأثير والتأثر، والاستيراد والحوار، والرفض والتمثل، وغير ذلك مما يؤدي إلى ظهور عناصر جديدة في طريقة التفكير وأسلوب معالجة القضايا وتحليل الإشكاليات، وهو ما يعني أن التركيبة الثقافية والمفاهيمية لا يمكن أن تبقى أو تعود بحال من الأحوال إلى ما كانت عليه قبل هذه العملية»، ويعزو البعض دلالات سيئة إلى هذا المصطلح بسبب مفهومه في الفكر الغربي، حيث تطرح المثاقفة على أنها: «علاقة ثقافة متفوقة وثقافة متخلفة»، دمتم بخير وللحديث بقية في مقال يوم الجمعة القادم بإذن الله والسلام.