د.عبدالله بن موسى الطاير
السياسة مصالح، والمملكة بلد كامل السيادة، وتعمل قيادتها على توثيق صلاتها، حيث تكون المصالح بغض النظر عن الدائرة الجغرافية لتلك العلاقات. حجم الاتفاقيات التي وقّعت مع الهند والصين تؤكد ممارسة السعودية لخياراتها المشروعة في موازنة حلافاتها الدولية. من حيث المبدأ، فإن التوجه شرقاً لا يعني قلب ظهر المجن للغرب، فنحن نستورد معظم السلع الإستراتيجية من الغرب ونعتمد عليه في الكثير من الخدمات الحيوية، ولكن في ذات الوقت فإن أكبر سوق لسلعتنا الإستراتيجية هو الشرق وتحديداً الهند والصين.
المملكة ترفض سياسة المحاور والانحياز التام لغير مصالحها ومبادئها التي تقوم عليها سياستها الخارجية، ولذلك فإنها تتمتع بعلاقات قوية مع أمريكا ولكنها في ذات الوقت تقف على نفس المسافة من روسيا والصين. الفارق المهم الذي يسجَّل لصالح الصين أنها لم تتسبب في انقلاب أو ثورة أو اجتياح بلد عربي أو إسلامي، بينما يمارس الغرب عادته القديمة في هندسة الثورات في الشرق الأوسط عن طريق الإدارات الديمقراطية، والتدخل العسكري عن طريق الإدارات الجمهورية.
زيارة الأمير محمد بن سلمان للصين، وحفاوة استقباله في الهند تؤكد أن المستقبل يكتب بشكل متقن بحول الله، فالصين تملك أكبر اقتصاد عالمي، وبحلول عام 2050 ستكون ما زالت في المقدمة تليها الهند وثالثاً أمريكا، ولذلك فالرهان على هاتين القوتين هو صمام أمان للاقتصاد والعلاقات الإستراتيجية السعودية.
أصدقاؤنا في الغرب منشغلون بعجرفتهم وشعاراتهم، ونحن وحلفاؤنا في الشرق مهمومون بالأمن والاستقرار والتنمية وإصلاح ما فسد في منطقتنا، ولذلك فلا ضير من ترك الغرب يجتر خيلاءه، ويمارس استعلاءه الثقافي ريثما نرتب أولوياتنا ونختبر خياراتنا ونوسع دائرة حلفائنا. ويقيني أن أهم درس سنتعلّمه من الصين هو وضوح الهدف والسير نحوه وعدم الالتفات إلى المهاترات الفارغة التي لن تتوقف إذا جعلناها أكبر همنا، ولن تزداد إذا وضعناها خلف ظهورنا. الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيان، ونحن محسوبون على الشرق ويمكن لنا أن نتعايش معه في ظل تبادل المصالح وعدم التدخل في شؤون بعضنا البعض. وفي ذات الوقت فإن إبقاء القنوات مشرعة مع الغرب سيزيدنا تحكماً في مصادر قوتنا.
العام الماضي قام سمو الأمير محمد بن سلمان بزيارة تاريخية لأمريكا وبعض الدول الأوربية، وكانت زيارة تاريخية أجاب فيها عن أسئلة معلَّقة عمرها من عمر الدولة السعودية الثالثة. كان واضحاً وشفافاً ومتحمساً راغباً في ردم الفجوة مع الغرب، متوجهاً نحو النخب والرأي العام على حد سواء. ولا شك أنه حقق نجاحاً كبيراً في توطيد العلاقات الرسمية بالبيت الأبيض الذي قاوم لاحقاً ضغوطاً مهولة للتعاطي بشكل مختلف مع مقتل الصحافي جمال خاشقجي. الرئيس ترامب يرى من على كرسي الرئاسة ما لا يراه غيره، ولذلك يتمسك بالعلاقات السعودية الأمريكية لما فيها من مصلحة مؤكدة للاقتصاد الأمريكي، وينحاز للأمير محمد بن سلمان لما عرفه عنه من قوة في إدارة الشؤون السعودية وعزم مؤكد على النهوض ببلاده، وتيقن الرئيس الأمريكي أنه يتعاون مع شريك يمكن الوثوق به. اليوم يقوم سموه بزيارة تكاد تكون مفصلية للصين، وسيترك لا محالة بصمته في عقول ووجدان الصينيين كما سيترك انطباعاً يؤكد أنه الشريك الذي يمكن أن تثق به الصين ممثلاً لأكبر قوة عربية شرق أوسطية.
ليست هذه دعوة للنأي بالنفس عن الغرب الذي لن نستطيع ولو حرصنا الانفكاك من سيطرته في شتى المجالات، وتصرفه في مقاليد الاقتصاد ونظام التسلح والمدفوعات المالية. ولكننا على الأقل نطمئن إلى أن في الأرض متسع لتنويع مصادر القوة السعودية في المجالات كافة.