كنت للتو ملتحقاً بالوظيفة العامة، شاباً لم أتجاوز الثانية والعشرين سنة، وكانت هي في سني طفولتها المتأخرة لم تتجاوز الخامسة عشرة سنة عندما بدأنا حياتنا المشتركة بكثير من التفاهم لبناء خبراتنا الأسرية والاجتماعية، في رحلة طويلة امتدت نحو ستة وثلاثين عاماً. لم يحدث خلالها ما يدفعها لمغادرة بيتنا لحظة واحدة، ثم فاجأتني بمغادرتها السريعة من هذه الدنيا لتنتهي تلك القصة القصيرة الرائعة.
لم تكن مجرد زوجة، بل كانت أختاً كريمة، وصديقة عمر وفية، ورفيقة درب طويل وشاق، لقد كانت كل ذلك ولكن بعمق وبصدق، وبصبر، وباهتمام، واحترام، وثقة. لم أكن غافلاً عن الموت وأنه نهاية كل حي، ولكن الأمل طويل، فلم أتوقع أنها ستغادر حياتي إلى الأبد بهذه السرعة، وكنت عند احتضارها أرمق بأمل كبير الأجهزة الموصولة بجسدها المتعب الذي أرهقه الوجع لعل أحدها يبشر باستجابة الله تعالى لدعائها ودعائنا بمعجزة الشفاء بعد أن فقدتُ الأمل في كل ما يحقن في جسدها من أدوية وسموم.
ولم أكن غافلاً عن أن كل ما يقدره المولى -عز وجل- للإنسان خيرٌ محض ولكن الأنفس حينما تمتزج ببعضها فترة من الزمن ثم تفترق فجأة يكون الفراق مراً مذاقه، ويكون افتراق الأجساد عسيراً تقبله، ومؤلماً تذكره، وصعباً احتماله.
ولم أكن غافلاً عن أن الصبر عند الصدمة الأولى وفيه أجر غير محدود، ولكن فقدها يفوق احتمال الوجد من الفراق الطويل، فلا يخففه غير الأمل بأن يجمعني الله بها عنده في الفردوس الأعلى، وقد تحاملت على ما أجد في نفسي من لوعة الفراق وتصبرت أمام أبنائي وبناتي كيلا أسبب لهم مزيداً من تجدد الأحزان فمع صبرهم وتصبرهم واحتسابهم إلا أن صدمتهم كانت أعمق وحزنهم كان أشداً.
لقد خسرت بفقدها حياة ملؤها المودة والاحترام والتقدير والرحمة، فلم تٌسمعني يوما قولاً خارج حدود المودة والرحمة، ولا كلاماً خالياً من الاحترام والتقدير حتى في لحظات التوتر والانفعال التي لا تخلو منها البيوت، فكانت في كل حال تحرص على الاحتشام في كل أقوالها وأفعالها.
لقد خسرت بفقدها أنس المجلس وعذب الحديث.
لقد خسرت بفقدها المرآة التي تكشف غفلتي عن أيّ واجب من واجباتي الاجتماعية إذا غفلت عنه في زحمة الحياة ومشاغلها، «أمك اتصل بها» عبارة تنبيه طالما سمعتها منها حتى وأنا في السفر خارج المملكة أو داخلها. وما كانت تمل من التذكير بحقوق الإخوان والأخوات والأقارب من التواصل والإكرام.
لقد خسرت بفقدها مربية صالحة لأولادنا، تحثهم على الصلاة في وقتها، وعلى مكارم الأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين، كانت تأمرهم بحسن الصلة لأعمامهم وعماتهم وجميع أقاربهم، وقد اكتشفت بعد فقدها أن تأثيرها في حسن أخلاقهم يفوق تأثيري إلى حد بعيد، فقد كانت منهم أقرب، وبهم أرأف وأرحم.
لقد خسرت بفقدها ركناً آوي إليه حينما تقسو عليّ متاعب الحياة أو تتفرق بي السبل، أتحدث إليها مطمئناً أن أحداً لن يسمعني ولن يعرف ما بي غير الله -عز وجل- فإن لم أجد عندها الحكمة والمشورة وجدت المشاركة والسلوان؛ على قول الشاعر:
ولابد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
لقد خسرت بفقدها كثيراً من الذكريات الجميلة في محطات حياتنا المشتركة من الدوادمي إلى الرياض إلى الأحساء ثم إلى بيشة فمكة المكرمة فبيشة مرة أخرى عبر دورة فلكية طولها (36) ستة وثلاثون عاماً، ذكريات مشتركة أصبحت لي بعد فقدها كالمتحف الجميل الذي لا يغادره صاحبه.
أسأل الله تعالى لها الغفران وواسع الجنان وأن يلهمنا بعدها الصبر والسلوان.. و إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ .
** **
- محمد آل عمرو