د. خيرية السقاف
أذكر حين كنا نتعلّم اللغة الفرنسية في المدرسة، في قلب الرياض، وأقصى المدن، كما في القرية، كنا ناشئة نزداد طموحاً، نتأبط كتبنا باعتزاز، ومفاخرة، ونبتهج حين نحاول توظيفها في أحاديثنا حين نجلس معاً لنقضم لقيمات في لحظات «الفسحة»، أو ونحن عابرات ندلف إلى خارج المدرسة في نهاية اليوم الدراسي الذي كان مفعماً بكل ما يثرينا، حتى إن حصة «الحساب» التي أصبحت في الثانوية «الرياضيات»، لم تكن فيها المسائل الرياضية تحل على الدفاتر، ولا على الأصابع، وليس من آلات حسابية، وإنما كانت معلماتنا يشحذن حواسنا لمعرفة العدد الكلي لمجموع الأعداد في كل حالاتها عن طريق التخيل، حيث يُعملن حواسنا كلها البصرية، والذهنية معاً نحو سرعة التفكير، ومن ثم نطق الإجابة واحدة قبل الأخرى لتحصد الأسرع درجة تميز عن غيرها، أما اللغة العربية فقد كانت مجالاً للتنافس بيننا، فمن تطبق قواعد النحو في مشافهتها كما في كتابتها فلها حصاد من الدرجات الإضافية، وشهادة تقدير، وعبارات موجزة في ذيل كشف الدرجات الشهري تشهد لها بالتميز..
كما كنا حين نلج المكتبة المدرسية، أو في بيوتنا حيث يوفر لنا أهلنا الكتب، ويتيحون لنا اقتناءها بلا حواجز ونلتقي على أغلفة القصص، والأشعار، والنقد، أو الروايات المترجمة بمبدعين فرنسيين، أو متحدثي الإنجليزية أو بنقاد منهم، نقفز فرحاً إذ نحاول أن نوظّف ما اكتسبناه من لغتيهم في المدرسة في ترديد بعض الشذرات، أو السطور بما تعلّمناه..
ما كانت عليه مناهجنا نمايز بين تعليمنا، وتعليمهم الذي لا يمكنهم من غير لغاتهم الأم، بينما نحن في مدارسنا نتعلّم لغتهم هم لا يعرفون عربيتنا..
فالفرنسية والإنجليزية لغتان كانتا مقررتين في المدرسة الثانوية، واعتمد تواصل تعلّمهما فيما بعد على رعاية الأهل، والفرد ذاته فمن استمر في تعلّمها فأتقنها، ومن توقف ونسيها، حتى وهنت العناية باللغات في التعليم النظامي، وشمل الوهن تعليم العربية ذاتها، مع ضعف أساليب تدريس الرياضيات، وبقية المعارف فيما بعد، وعلت أصوات التذمر من وهن التعليم، وضعف أساليب التدريس لفترات طويلة، وبات من يعلم العربية نفسه يخطئ في كتابة همزاتها، ويتعثر في رسم مواضعها، ولا يكاد خطه يبين، ولا تستقيم على لسانه فصاحة ما يجب أن يكون عليه المعلمون!..
وفي المرحلة الراهنة بدأ الالتفاف حول القصور، والتركيز على الأبنية، والاتقاد نحو إشعال مفاصل المؤسسة التعليمية على أهبة الواقع، والمستشرَف، والمأمول في جميع الجوانب، وأولها تطوير المناهج، وتنويعها، وجعلها مواكبة للطموح، وقادرة على تحقيق الأهداف، والتوجه الفعلي نحو الغايات، فكراً، ووجداناً، وانتماءً، وإنتاجاً، وانتشاراً، في جميع جوانب المعرفة، وموضوعاتها بما فيها اللغات، والعربية أولها.
هو شريط يعبر في لحظة أن قرأت عن فكرة عزم وزارة التعليم بدء تدريس «اللغة الصينية» في جميع المراحل، بعد زيارة ولي العهد الأخيرة لتوطيد التبادل الاقتصادي، والمعرفي، والتقني، والاستثماري، وتوثيق الشراكات الفعَّالة، ومنها يهدف المجدّد الفعَّال «محمد بن سلمان» أن يمد عجلة ساقية طموحه لتلف بالشرق، وتصب في أعظم دوله المشهود بأنها ذات قوة اقتصادية، وصناعية، وتقنية، وتجارية، فكان من ضمن أهم ما يمكِّن الجيل القادم من مواكبة تطور هذه الدول أن يتقن المتعلّمون منهم لغتهم لمزيد من الأخذ المجدي، لكثير يتدفق من العطاء المثمر..
إن في تعلّم اللغات شروعاً للرقي الحقيقي في سلم التميز، والإنجاز، والاكتساب المحفز لمهارات الابتكارات، والممكِّن للثقة في القدرات الذاتية، والتدرب على المشاركة الفاعلة، والتبادل ذي المكاسب..
ترسانة التعليم بدأت في تمكين عدتها بتوسيع أنواع عتادها، والخلاص من شوائبها، ونمطيتها، يبقى إلى جانب تعلّم الصينية، ضرورة إتقان العربية، والإنجليزية..
إن العقل الذي وهبه الله للإنسان مؤهل بفطرته للاكتساب، وإن ما يكتسبه قوةً وضعفاً، إتقاناً وتَلكأً ولجلجةً يعتمد على من يُعلم وذلك بيت القصيد الذي يحتاج إلى من يرممه، ويقوي أعمدته، ويسقي جُدُرَه..
مرحباً بالصينية، مرحباً بها لغة الانفتاح على ثقافة أمة شرقية تقدَّمت بعملها، وإنتاجها، وانتشرت باقتصادها ونتاجها..
وإن في هذا القرار بصمة إضافية مهمة في رؤية 2030 حين تتحول حروفها إلى كلمات ناطقة، وأفعالاً منفذة، وحقائق واقعة.