د. إبراهيم بن محمد الشتوي
حين نعد القص الشعبي «خطاباً» مؤثّراً، ونقوم بدراسته من هذه الزاوية، فإن هذا الاعتبار يصبح جواز مرور إلى سائر أنواع الدراسة والتأمل، ويمنحه الفرصة للدخول إلى عالم النصوص الأدبية المعتبرة. وهذا يعني أن سائر عناصره ومكوناته تصبح مجالاً للدرس والتأمل والنظر لأنها هي التي كونت هذا الخطاب، ولأنها أيضاً تحمل بذور التأثير في المتلقي وهذا ما يجعلها عناصر بلاغية في المقام الأول.
تقوم البلاغة - في الغالب- وأقصد البلاغة العربية على الشكل في المقام الأول، بمعنى أنها تبحث عن مكونات شكلية. وبناءً على دلالة هذا الشكل يتحدد المعنى البلاغي الذي هو - في الغالب- جزئي يتصل بهذا العنصر الشكلي نفسه. وهذا مطرد في مباحث علم البيان والبديع والمعاني.
وحين نقول خطاب المهمشين، فنحن لا نبحث في الضرورة عن شكل، وإنما قد نبحث عن مضمون أو معنى، وهذا يعني أننا نتجاوز المفهوم الضيق للبلاغة العربية للبلاغة لنجعله دالاً على السمات العامة للقول حين يصبح مجالاً للدراسة والتأمل، ذلك أن الموضوع الذي يطرحه «القول» أحد العناصر المهمة الجاذبة له، ثم إننا في رحلتنا إلى تأمله وقد أصبح أداة للتأثير والإمتاع، وملء الوقت، لا بد أن نقف على مكوناته بوصفها جزءاً من عناصره المساهمة في تكوينه وبيان أثره.
أول سمة ظاهرة مضمونية، وهي شكلية في الوقت نفسه، من سمات القص الشعبي إسناد الأفعال إلى قوى غيبية، تتمثل بالجن على وجه الأغلب. وهي سمة تحدث عنها كثير ممن تحدث عن القص الشعبي، حتى عدها بعضهم السمة الفارقة له عن القص الحديث، وعن الأسطورة باعتبار أن الأسطورة - خاصة اليونانية- تقص نبأ صراع آلهتهم، في حين ترتبط أحداث السير الشعبية بالجن والشياطين. أما القص الحديث فيتناول سير البشر من غير آلهة أو جن، واللجوء إلى السحر والكهانة، والحيلة في تحقيق المراد.
فالجن حاضرون بصورة كبيرة، والصلة بين الإنس والجن قائمة، تكون عن طريق المصاهرة كأن ينكح الجن إنسية أو الإنسي جنية، أو عن طريق الصداقة بأن يكون أحد الجان صديقاً للإنسان، أو عن طريق التعاون فيعمل كل واحد منهما عملاً للآخر، إضافة إلى تصور الجن بصورة الإنسان والطير وتحوله بين الأشكال المختلفة. وهذه الصلة بين الجن والإنسان تجعل العوالم متداخلة، فالشجر والحيوان يتكلمان، والإنسان يطير، وتنتج فضاءً شعبياً متميزاً مختلفاً-ربما- عن العالم الواقعي المحسوس.
فالإنسان - بصورة أخرى- في القص الشعبي متجاوز عالمه الظاهر، وممتد تأثيره إلى العالم الغيبي (وهو عالم الجن طبعاً)، وهو ما يعطيه قوة على الطبيعة وميزة عن الأجناس الأخرى. وهذه القوة التي تمنحها الجن للإنسان هي قوة مساندة لأننا لا نلبث أن نرى الإنسان يتفوق على الجن والعفاريت في كل مواجهة بينهما، ويكون هذا التفوق بالمواجهة حيناً وبالحيلة أخرى.
ونحن نقول (ربما) لأننا لا نستطيع أن ندرك الحالة التي يرى الإنسان الشعبي (البسيط) في القص الشعبي الكون عليها، ولا نستطيع أن ندرك الطريقة التي يتعامل مع الكون من خلالها، فنحن لا نستطيع أن نحدد إذا ما كانت الحالة التي جاء عليها الفضاء في الحكاية تعبر عن الرؤية الحقيقية أم أنها تفسير الإنسان البسيط للكون من حوله، أم أنها بمثابة تعبير مجازي رمزي عنه.
لكن الأمر المهم هو أن هذا الإنسان البسيط (المهمش) قد أنتج عالماً جديداً موازياً للعالم الواقعي الذي يعيشه، تختلف فيه العلاقات عما يراه، كما يختلف فيه موقعه، فعوضاً عن أن يكون مهمشاً لا يؤبه به، يتبع مواقع الكلأ لأغنامه، أو يتابع سقيا زرعه، أو أن تكون امرأة تعنى بشأن رحاها وتنورها، أصبح مركزاً تدور حوله الأحداث، يصول ويجول ويأخذ ويدع، ويصل ويقطع، تمتد قدرته إلى ما وراء الطبيعة، يتحدث إليها ويسمعها، فيحدث الشجر والحجر والطير والدواب، ويركب الرياح والبحار، ويحرك الجن كما يشاء.
هذه الحالة التي يأتي عليها المكان ومن فيه، تمثِّل نوعاً من التعويض عن الواقع الذي يعيشه، وحاله فيه، ونوعاً من التسلية لما يعانيه من كبد العيش ومشقته، ومن عجزه حياله، يجد فيه الإنصاف إن لم يكن منصفاً في واقعه، ويجد فيه الانتصار إن كان مظلوماً، يشحنه بمواعظه، وبتحذيره من مغبة مصير الظالمين الذين يتجاوزون الأعراف والتقاليد، ولا يراعون الحقوق.
وهو في الوقت نفسه كشف عن العالم الغيبي أو ما وراء الطبيعة، الذي لا يرى عادة، والمتمثل بالجن والشياطين هنا وتمظهراتهم المختلفة، والجانب الخفي للمكان، أو ما يسمى بقاع المجتمع، حيث خدع المحتالين، واللصوص، وحيل النساء وكيدهن، وأفاعيل السحرة والمبطلين، وأكاذيب الفقراء والمتسوِّلين. تقدمها هذه الحكايات حيناً في صور اعتداء وبغي، وتجاوز من هذه الفئة، أو بصورة انتصار وبحث عن إحقاق الحق، وانتصاف المظلومين، فتدون تاريخهم، وتحكي تفاصيل حيواتهم.