مكسيم غوركي مؤسس مدرسة الواقعية الاشتراكية، وفي رائعته» الأم»، كان قد أثبت اكتماله الأدبي للجميع، بعد أن أتحفهم بصعوده درجات السلم في مسرحية «الحضيض» أو إبداعه في ثلاثية سيرته الذاتية(طفولتي، بين الناس، جامعاتي)..
فهذه الرواية الواقعية العميقة بفكرها ومضمونها شكلت نموذجًا للنضال الثوري وواقع العمال التعيس الذي قد عانى منه غوركي في الدرجة الأولى، والذي قد صوره في معاناة أبناء شعبه إبان الحكم القيصري في روسيا؛ حيث ترتكز محاور هذه الرواية على فكرة الثورة التي خرجت من رحم المعاناة الطبقية، والظلم الذي كان يعيشه أفراد طبقة العمال من المتسلطين، بكون الفكرة الاشتراكية للكاتب هي طريق النجاة المعتمد والذي سيّر أبطال روايته على منوالها.
تبدأ الرواية بانطلاق صافرات بدء العمل في المصنع، والتي يتهافت بعدها ضجيج العمال الناقمين على ذل الفقر والظلم الذي يعيشونه، وعلى حياتهم التي يستغرقونها بالعمل، ثم يقضون ما تبقى من يومهم بالسكر والسهر ليفرغوا كبت الشقاء، فإذا ما فرغوا غرقوا في نوم مجهد تيقظهم بعده صافرات المصنع مجددًا.
تنقضي أيامهم بطريقة ميكانيكية تكاد تخلو من مشاعر اللين والحب، بل تغطيها خشونة قاسية نابعة من طبيعة عملهم الصلبة.
ثم ها هي تأتي على ذكر ميخائيل فلاسوف، الرجل السكير الدنيء الذي يقضي يومه بالشتائم البذيئة والصراخ المنتهي بقوله «يا ابناء الكلبة!»، ولا يكاد ينقضي يومه دون أن يوسع زوجته «بيلاجيا» بطلة الرواية أو «الأم» ضربًا مبرحًا لا تقوى معه إلا على الصمت البكاء، حتى إنه حين كان على فراش الموت كان يتوعدها بقوله: «إن شفيت لن تزداد حالكِ إلا سوءًا!»
ومع ذلك وبعد أن مات ميخائيل فلاسوف، لم تشعر بيلاجيا بالحزن عليه، فجميع ما عاشته من ضرب وحياة كئيبة أفضت معها كل مشاعرها، باستثناء مشاعر «الأمومة» التي خطّت بها بيلاجيا بطولتها في الأحداث تاليًا.
أما بافل فلاسوف فهو ابن ميخائيل فلاسوف، وقد سار على نهج والده بفظاظته وسكره وعربدته وأسلوبه اللامبالي، لكنه وفي لحظة أخذ مسارًا آخر حينما بدأ يقرأ كتبًا ممنوعة تدعو للنضال والثورة والتخلص من الظلم.. ومن هنا بدأت أحداث الرواية بالتشويق، وبدأ دور الأم في احتضان ابنها وصحبها بالرغم من كونها لا تفهم كثيرًا مما يقولون وما يدعون إليه.
ويمكنني كقارئة أن أذكر لكم ما قد لفتني في الرواية من أفكار:
* الظلم والكبت والفقر الجماعي قد يؤدي إلى نتيجتين: إما طريق الضلال والضياع والمتاهة كما صورها غوركي في أبناء العمال الذين يقضون يومهم بالشرب دون أن يستطيع الأهل تغيير أي شيء من ذلك: «كانوا يشتمون أبناءهم ويضربونهم بقسوة، لكن سكر الفتيان وعربدتهم كانا مقبولين كأمر لا مفر منه أو مهرب»، وإما أن يأخذ الأمر طريقًا آخر، يسأل فيه الأفراد عن ماهية وجودهم وحقوقهم فيتحدوت لتغيير واقعهم لاشتراكهم في همٍّ واحد، كما جاء في هتافاتهم: «يا عمّال العالم اتحدوا!»
* شرارة التغيير تبدأ غالبًا من الشباب، وفي أي زمن، لذلك فإن مروجي الأفكار الجيدة والسيئة على حدٍ سواء يستثمرون في الفئة الشابة، وغالبًا ما يكون استثمارًا سهلاً، لكون هذه الفئة أكثر حماسًا وقابلية للتغيير.
* الكتب تمثل أسلوبًا ثوريًا لا يمكن زعزعته، فنقطة الوعي والإدراك الأول جاءت في نظر غوركي بالقراءة، فخطوة بافل الأولى بدأت من قراءة الكتب الداعية للتغيير، وقد كانت كتبًا ممنوعة كما هي دومًا في الأنظمة الديكتاتورية.
* الأم ليست بحاجة تبريرات ولا عقلٍ واعي لكي تحب؛ فعاطفة الأمومة فاقت كل تفسيرات العلاقات وتوازنها، هذه العلاقة الفريدة التي جعلت الأم «بيلاجيا» تدافع عن ابنها وتسانده وتخاطر بحياتها لأجل النهوض بفكرته التي قد لا تفهمها جيدًا، وهذه العاطفة بذاتها التي مكنتها من احتضان أصحابه كأنهم أبناؤها لم تكن يومًا عاطفة مبتذلة ولا علاقة أخذٍ وعطاء.
هذه الأم التي عانت قسوة معاملة زوجها الجسدية واللفظية والتي رفض زوجها إعالتها «لا تسأليني مالًا بعد اليوم، بافل يقوم بأودك من الآن فصاعداً..»، والتي عاشت فقرًا مُرًّا، المرأة التي مع ذلك آمنت بابنها ورأت فيه بطلًا انتشلها من كونها آلة عليلة، الأم التي أحبَّت الأبطال كأبنائها وضمتهم بعطفها، المرأة التي تقودها الخيلاء كلما لمعت في بالها كلمات ابنها:
«إن كلمات ابني هي كلمات شريفة لعامل لم يبع نفسه، لسوف تعرفونها من جرأتها!»
هي الوطن والثورة الاشتراكية التي كان غوركي موفقًا بتصويرها بهذا النمط.
ولعل أشمل المقولات التي ضمّنها غوركي على لسانها كانت: « كل شيء للجميع والجميع من أجل كل شيء! هكذا أنا أفهم عملكم جميعًا! في الحقيقة إنكم جميعًا رفاق، أرواح متقاربة، أبناء أم واحدة، وهذه الأم هي الحقيقية!
** ** **
- سهى الدهامشة