ترجمة وتعليق: د. حمد العيسى:
تقديم المترجم: هذه المادة مترجمة بتصرف عن الفصل الخامس من كتاب «الصحافة العربية» للبروفيسور ويليام رف، طبعة يناير 2004. السفير البروفيسور ويليام رف هو أستاذ زائر للدبلوماسية العامة في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس الأمريكية. وعمل دبلوماسيا للولايات المتحدة خلال 1964-1995، حيث أدى تسع مهام دبلوماسية في العالم العربي. حصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة كولومبيا الأمريكية. كما أنه عضو في مجلس أمناء الجامعة الأمريكية في بيروت. وتشكل هذه المادة الفصل الثاني من كتاب «الصراع السياسي والتحيز للحضر في الصحافة الكويتية المعاصرة» الذي صدر مؤخراً من إعداد وترجمة وتعليق حمد العيسى، ومن تأليف الباحث النرويجي د. كتيل سلفيك وآخرين، وصدر في 648 صفحة عن منتدى المعارف في بيروت:
2=وليس هناك شك في أن رعاية الصحافة لأغراض سياسية تحدث في لبنان، بالرغم من أنه من المستحيل تحديد مدى وطبيعة هذه الرعاية والعلاقات «الزبائنية» (المحسوبية) المماثلة. وفي بعض الحالات، يُحدّد الموقفُ الشخصيّ للناشر الاتجاهَ التحريريَّ للصحيفة، وقد يحدده بشكل ثانوي أو هامشي الراعي أو الزبون السياسي. وهناك قلة من الصحف التي حققت تنوعا وتوازنا كافيا داخل صفحاتها، حيث يصعب على المراقبين في كثير من الأحيان تحديد وجود تحيز واضح؛ بل يصفها بعضهم بالموضوعية. وهناك صحف أخرى تُغيّر توجهها السياسيّ بشكل متكرر، حيث يصعب تصنيفها بغير كونها «انتهازية».
وعلى سبيل المثال، قبل الحرب الأهلية، اِفترضَ قُراء الصحافة اللبنانية أن صحف «النداء» و«الشرق» و«السفير» و«الكفاح» ترتبط بعلاقات رعاية (دعم مالي) مع زبائن من روسيا وسوريا وليبيا والعراق، على التوالي، في حين اِفترض القراء أيضاً أن صحيفة «الحياة» تحصل على دعم (...) ولبناني محافظ. كما اعتقد القراء أن «الأمل» و«الجريدة» تتلقيان بالتأكيد تمويلاً وطنياً لبنانياً من نوع ما، في حين أن الفلسطينيين والقوميين العرب كانوا يدعمون إما «المحرر» و«اللواء» أو «الأنوار» الأكثر اعتدالا و«صوت العروبة». ومن الصعب تصنيف توجه بعض الصحف بدقة؛ لأنها أظهرت ميولاً مختلطة. وتعد صحيفة «النهار» المستقلة في الأساس مؤسسة عائلية منذ أن أسسها جبران تويني الجد في عام 1933، ثم ترأسها ابنه غسان ويديرها الآن حفيده جبران بنجاح*. فخر واعتزاز أسرة آل تويني بـ«النهار» باعتبارها تراثا عائليا يساعد في فهم شجاعة «النهار» في نقدها لسوريا أكثر من معظم الصحف اللبنانية.
وللتوضيح، يقدم الجدول-1 (في الكتاب فقط) إشارة مبسطة إلى مجموعة متنوعة من الاتجاهات السياسية، التي لوحظت من قبل القراء في الصحف اللبنانية اليومية الرائدة. ويعتقد المراقبون، عموما، أنهم يستطيعون الكشف عن الاتجاهات السياسية في الصحف عبر ثلاثة مؤشرات:
(1) السياسة الوطنية والانتماء الديني؛ و
(2) السياسة الإقليمية بما في ذلك القضية العربية-الإسرائيلية؛ و
(3) العلاقات الدولية.
ويشير الجدول إلى تقديرات لأرقام توزيع الصحف اليومية بشكل يسهل المقارنة بين عام 1975، قبيل الحرب الأهلية، وعام 1999 بعد نهاية الحرب الأهلية مع شرح مبسط يوضح اتجاه الصحيفة الذي يتصوره قراؤها عموما. (3)
وتغطي العديد من المجلات الأسبوعية وغيرها من المطبوعات، التي ظهرت قبل الحرب الأهلية والأخرى التي نجت أو انبثقت بعدها، الطيف الواسع نفسه من التوجهات السياسية مثل تلك الصحف. وكانت المنافسة والصراعات الخطابية بينها قوية وحيوية، مثلما كان النقد والدفاع عن سياسات الحكومة وزعمائها. وظهر هذا النوع من الصحافة في لبنان بسبب الظروف السياسية الخاصة في ذلك البلد، والطريقة التي بزغت فيها الصحافة على مر السنين. ترى: ما هي هذه الظروف؟
لقد بدأت الصحافة اللبنانية في منتصف القرن التاسع عشر، عندما كان البلد يقع تحت الحكم العثماني. وبالرغم من أن الصحف كانت قد ظهرت قبلها في مصر، فإن بيروت تملك أطول تاريخ للصحافة المستمرة. ونظراً لتركيز لبنان المبكر على التعليم، أصبح لديه أكبر عدد من الصحف منذ البداية. وصدرت أول صحيفة عربية يومية في بيروت في عام 1873. وإجمالا، صدر حوالي أربعين من الصحف والدوريات الأخرى خلال الفترة 1870-1900. وكانت الصحف الأولى نخبوية؛ فقد كان تكتبها وتقرأها أفراد النخبة المثقفة الذين سببت لهم أفكارهم الليبرالية المشاكل الكثيرة مع السلطات العثمانية. لقد تأثرت النخبة المثقفة بلبنان حينئذ بالأفكار الغربية عموماً والأفكار الفرنسية بشكل خاص. ومن ثمّ، تأثرت بدايات الصحافة اللبنانية مهنياً بالصحافة الفرنسية تحديداً، حيث كانت الصحف والمطبوعات اللبنانية الأولى - بالفرنسية أو العربية – مماثلة في كثير من الأحيان للصحف والمجلات الفرنسية المعاصرة. (4)
وأدت الرقابة الدورية الصارمة، وخاصة في عهد السلطان عبد الحميد (1876-1909)، إلى فرار بعض الصحافيين إلى مصر، حيث يمكنهم تأسيس وتشغيل صحف بقيود أقل؛ ولكن بعد إقرار لبنان قانون للصحافة أكثر ليبرالية عام 1909، أصبحت الصحف اللبنانية تستطيع أداء دور واضح في حركة القومية العربية. واستمرت الحكومة في مراقبة أنشطة الصحافة. وفي مايو 1916، على سبيل المثال، كان 16 من 31 زعيما عربيا (وطنيون ومفكرون) جرى شنقهم في بيروت ودمشق بأمر من الحاكم العثماني جمال باشا، والي الشام، بجريمة الخيانة العظمى أي خيانة الدولة العثمانية، بعدما طالبوا بالاستقلال واتهموا بإثارة وتهييج الرأي العام هم من «الصحافيين». (5) وظهرت تحت الانتداب الفرنسي (1920-1941) صحف أكثر واشتغلت العديد منها بالسياسة، بالرغم من أن الفرنسيين شددوا الرقابة على الصحافة. وبحلول عام 1929، كان هناك العديد من الصحف في لبنان، وواجه بعض رؤساء التحرير الإيقاف والغرامة والسجن عندما طالبوا بالاستقلال في افتتاحياتهم.
** ** **
* نشر هذه الورقة في يناير 2004، أي قبل اغتيال جبران تويني رحمه الله في 12 ديسمبر 2005. (العيسى)