هكذا سماه أبوه: «أحمد شمس الأئمة أبو الأشبال»، ولعل والده محقٌ فيما قاله، فلقد كان ابنه كذلك، إنه العلامة المحدث: أحمد بن محمد شاكر (1309- 1377هـ)، وحديثي في هذه المقالة الموجزة مقتصر على رحلته إلى الحجاز ونجد، التي ضمّها كتاب أسماه: «أيامٌ في الجزيرة.. رحلتي إلى الحجاز ونجد»، إذ كانت رحلته تلك عام 1368هـ/ 1949م، في المدة من 23 جمادى الأولى 1368هـ، الواقع في 24 مارس 1949م، إلى 21 جمادى الآخرة 1368هـ، الواقع في 20 أبريل 1949م، ومدة رحلته شهر كامل تقريبًا، جرى فيها مجرى التوثيق اليومي، والمواقيتي.
تقع الرحلة في نحو مئتي صفحة من القطع المتوسط، حققها وعلق عليها، الأستاذ: أشرف عبدالمقصود، وصدرت طبعتها الأولى عام 1439هـ/ 2018م، عن مركز الوراق للتراث بالكويت، ودار البشائر الإسلامية بلبنان.
ومن الإنصاف القول: إن المحقق بذلًا جهدًا كبيرًا في التوثيق والتدقيق، ولكنه أكثَرَ من التعليقات والهوامش، وحلّى الرحلة بالكثير من الصور، وهي وإن كانت شائقة إلا أنها طوّلت مضمون الكتاب، ويجد القارئ نفسه انخرط توًا في مضمون الرحلة في الصفحة الثالثة والثمانين منها!.
وحتى لا أنشغل بغير المراد، فإن رحلة الشيخ أحمد شاكر من الأهمية بمكان، ذلك أنها جاءت بدعوة كريمة من صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه-، الذي أسبغ على صاحب الرحلة من واسع فضله وكرمه، بما يستحقه؛ لمكانته العلمية، وحسن سيرته المَرْضيّة.
وبقدر الفرح الملازم للقارئ حين تقع عينه على هذه الرحلة، فإن ذلك الفرح يخفت أو تصيبه شائبة حين يدرك أن الجزء الخاص برحلة الشيخ أحمد شاكر إلى مكة المكرمة، -وهي بالمناسبة رحلة عمرة لا حج-، أصابه سقط في أصل المخطوط، وتقدر المدة المفقودة بنحو اثني عشر يومًا، وقد سأل المحققُ اللهَ العثور عليها، ونحن -معاشر القراء- نؤمِّن على دعائه.
وعلى كلٍ، فإن الحديث عن هذه الرحلة سيكون مجملًا، ومركزًّا متجاوزًا بعض التفاصيل، على نحوٍ من الاختصار، غرض إحاطة القارئ بأهم ما ورد فيها.
ويمكن القول: إنها رحلة تحمل بُعْدين اثنين، أولهما: متصلٌ بالشخصيات الواردة طي الرحلة، وثانيهما: بُعدٌ مثاقفي، فأما الأول منهما، ففيه دليل على مكانة الشيخ العلمية، التي بوأته أن يكون مراتٍ عدة في الرحلة نفسها، ضيفًا على صاحب الجلالة، ومرات أخرى في ضيافة ولي عهده آنذاك، الملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله-، ولولا أنه شخصية علمية يسبق اسمها رسمها، لما كان للشيخ ذلك الحظ الوافر من الحظوة والتقدير عند الحكومة السعودية.
ولمكانة الشيخ أحمد شاكر فقد عُني بوفادته، وحسن استضافته، الشيخ محمد بن حسين نصيف، أما مرافقا الشيخ أحمد شاكر في الطائرة فهما: حافظ وهبة، والحفناوي باشا، وأما الشخصيات التي قابلها أو تحدث عنها -حين حطّ رحاله بما عُرف بالمملكة العربية السعودية لاحقًا- فهي كثيرة ومنها: الأديب عبدالوهاب عزام، والشيخ سليمان الصنيع، والشيخ محمد سرور الصبان، والشيخ عبدالعزيز بن صالح آل صالح(1)، والشيخ عبدالله السديري (أمير المدينة آنذاك)، والأستاذ عبدالله بلخير(2)، وغيرهم كثير. ولا أدلَّ على فضل الشيخ أحمد شاكر وذيوع صيته العلمي، من ثقة الملك سعود به، إذ قال يخاطبه: «إني أثقُ بالله ثم بك ثقة تامة في المسائل العلمية وغيرها»(3).
وأما بُعْد المثاقفة، فله صور عديدة تجلت في أثناء تنقل الشيخ أحمد شاكر، في أرجاء الدولة السعودية، وبخاصة في نجد، من خلال تواصله الثقافي والمعرفي مع الملك عبدالعزيز، والملك سعود، قصد نشر المعرفة وتعميمها، ومن ذلك أنه اقترح على جلالة الملك عبدالعزيز أن يسهم في إعادة طباعة نسخة مخفضة السعر لعموم طلبة العلم، من كتاب: المسند للإمام أحمد بن حنبل، فأجابه الملك عبدالعزيز بالقبول، ابتداء من الجزء السابع منه، وكان سبق للشيخ أحمد شاكر من قبلُ، أن شرحه وصنع فهارسه.
وتتضح المثاقفة العلمية جليًا، في علاقة الاتصال بين عالم وآخر، فقد زار الشيخُ أحمد شاكر في أثناء مكوثه في الرياض، الشيخَ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي الديار السعودية، فاستقبله هو وأبناؤه أحسن استقبال ودعوا له، فكان أن حدّث الضيفُ المضيفَ عن الكتب، ومما قاله الشيخ أحمد شاكر على لسان الشيخ محمد أنه: «أثنى على «المسند» ثناءً كثيرًا»، ثم عرض عليه طبع التهذيب للمزي، فوافق عليه.
بل إن علاقة العلماء مع بعضهم قائمة على نشر العلم ومداولته، لا على كتمه والضنّ به، ومما يُذكر في هذا المجال أن الشيخ محمد بن إبراهيم كان قد أخبر الشيخ أحمد شاكر بنسخة المسند المخطوطة، وهي النسخة التي اعتمدها الشيخ في تحقيقه بدءًا من الجزء السابع من كتاب المسند، فوصله الرد من الشيخ بأنه قد طلبها من أبناء عمه الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ، وقد وعدوه بالزيارة قبل سفره إلى مصر؛ ليحضروا له نسخته!.
ثم إن الشيخ شاكرًا بعد أن قام من مجلس المفتي، زار الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ، ومن وصفه له قوله: «أراه واسع المدى، كبير العقل، مطلعًا اطلاعًا جيدا».
ولا يخفى أن الشيخ أحمد شاكر لم يفته إزجاء الوقت بالنظر في مخطوطات الكتب ونسخها المتعددة، مع بعض أهل العلم حين زار بعض مكتبات المدينة المنورة، كالمكتبة المحمودية مثلا.
وثمة سمةٌ أختم بها حديثي عن هذه الرحلة، وهي اشتراكها مع رِحَل من ذات الطابع نفسه، في الميل إلى استثمار المنزلة الرفيعة لتمتين العلاقة مع الحكام، والإفادة منهم وإعانتهم على سبل الخير، وفي توثيق الصلة العلمية مع أقرانهم من العلماء ممن لا يشاركونهم أوطانهم.
وللناظر في رحلات الحج والعمرة التي كتبها علماء أن يتقصى أثر هذين البُعدين الذين أشرتُ إليهما سلفا، فقد كان أولئك العلماء يستشرفون اللقاء العلمي، ويزهون به، ويعدون له عدة المثاقفة، والمساءلة، ويمدّون إلى أبواب التحصيل والمعرفة، أسبابًا من تواضع العالِم، ودروسًا من علم التواضع، في تجلٍّ شفيف، تزخر به أرواحهم المشبعة بالسموّ الإنساني.
*** *** ***
(1 ) أورد المحقق خطأ أن نسب إمام الحرم النبوي الشيخ عبدالعزيز بن صالح، يرجع إلى آل الشيخ، والصحيح أنه يعود إلى بطن من بطون قبيلة عنزة المعروفة، ينظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون، الشيخ عبدالله آل بسام، دار العاصمة، الرياض، ط2، 1419هـ، 3/396.
(2) ورد خطأ في الرحلة وفي كشاف الأعلام باسم: عبدالله أبو الخير، والصواب ما أُثبت في المتن. ينظر: قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية، دارة الملك عبدالعزيز، الرياض، ط1، 1435ه/ 2014م، 1/129.
(3) أيام في الجزيرة.. رحلتي إلى الحجاز ونجد، أحمد محمد شاكر، تحقيق وتعليق: أشرف عبدالمقصود، مركز الوراق للتراث، الكويت، ودار البشائر الإسلامية، لبنان، ط1، 1439ه/2018م، ص110.
** ** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الحيدري
abdulaziz??@gmail.com