علي الخزيم
هي واحة بدايات الهوى؛ هادئة كحالة من تتغشاه نجوى الحبيب البعيد ولا يقدر على وصاله، غنَّاء مورقة عابقة بشذى أزاهير الصبابة ومقدمات الغزل العفيف النقي الطاهر، يجد بها العاشق نسمات تطفئ لهيب الوَجْد ولوعات الوَلَه حين تغيب السعادة بغياب المحبوب، يعرفها المُتَيَّمون عشقاً أكثر من غيرهم، ونحن الغافلون عن تباريح الجوى لا ندرك أسرارها وما يجول بين جنباتها من فنون الغرام وهمس العيون، نعم إنها العيون إذا غفل عنها العُذال والحاسدون قالت ما لم يقله فصيح البيان، هذا أحدهم يقول:
(وقَرَأتُ فِي عَيْنِ الملِيحَةِ جُملَةً
إِعْرَابُها يَا أَنْتَ إِنَّكَ مَوْطِنِي
لَا تُفْصِحِي بِالقَوْلِ إنَّ عُيُونَنَا
فِي البَوْحِ أَفْصَحُ مِن كلامِ الأَلسُنِ).
وحين يدلف الشاعر المُرهف الهائم حُباً جميلاً عفيفاً إلى واحة العشاق، وهو من عاش مُتْرَفاً بين الزهور اليانعة والمياه الرقراقة؛ كحال الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) فإنه سيقول:
(من بسمة النجم همس في قصائده
ومن مخالسة الظّبي الذي سنحا
ما للأقاحية السمراء قد صرفت
عنّا هواها أرقّ الحسن ما سمحا).
وتأمل هذا الشاعر (ذي الرمة) الذي قادته الظروف ليرى المَلِيحَة صدفةً ويَهِيمُ بها؛ غير أنه لم ينل حظاً للدخول لهذه الحديقة بل هو ابن الصحراء القاحلة، فحتماً سيقول ما يلائم محيطه:
(أمنْ دْمَنة بينَ القلات وشارعٍ
تصابيتَ حتى ظلّتِ العينُ تَدْمَعُ
عشيِّةَ ما لي حيلةٌ غيرَ أنَّني
بِلَقْط الحصى والخَطِّ في التَّرْب مُوْلَعُ).
أبو القاسم الشابي؛ الشاعر التونسي حين دخل هذه الحديقة كان يُفَرِّج عن نفسه ويُرَوِّح عنها قليلاً مما يعانيه وجدانياً:
(إِذا صَغُرَتْ نفسُ الفتى كانَ شوقُهُ
صغيراً فلم يتعبْ ولم يتجشَّمِ
ومَنْ كانَ جبَّارَ المطامِعِ لم يَزَلْ
يلاقي من الدُّنيا ضَراوَةَ قَشْعَمِ).
والقشعم: هو من أعتى وأضخم ذكور النسور الجارحة.
ومسكين الدارمي وهو: ربيعة التميمي؛ والدارمي نسبة إلى دارم أحد أجداده، اخذت منه (النجوى) مأخذاً بعيداً فهي إحدى درجات الحب التي تكون بحالات البعد والفراق مع الحزن الشديد لفقد وسائل الوصول للمحبوب:
(أقلّبُ طَرْفي في السماءِ لعلّهُ
يوافقُ طرْفي طَرْفَها حين تنْظُرُ
وأستعرضُ الركبانَ مِن كل وجْهةٍ
لعلّي بِمن قد شمّ عَرْفَكِ أظْفَرُ
وأستقبلُ الأرواحَ عند هَبُوبها
لعلّ نسيمَ الرّيحِ عنكِ يُخَبِّرُ).
الأحنف بن قيس أحد سادات العرب وأحد العظماء الدهاة الفصحاء الشجعان الفاتحين ويضرب به المثل في الحلم والأناة، ومع ذلك بلغت به (استكانة) الحب مبلغها، فيقول:
(أشكو الذين أذاقوني مودَّتَهم
حتى إذا أيقظوني بالهوى رقدُوا)!
ومن أقواله:
(طاف الهوى في عباد الله كلّهم
حتى إذا مرّ بي من بينهم وقفا).
ونُقِل عن جلال الدين الرومي قوله: حتى لو مدحت العشق بمائة ألفِ لغةٍ، لظلّ جمالُه أكثرَ من هذه التمتمات جميعاً.
وللشاعر الجميل، إبراهيم حمدان:
(ما كُنْتُ مِنْ قِلَّةِ الإيْمَانِ أعْشَقُهَا
لكِنَّهَاْ كَمُلَتْ فَاْزْدادَ إيمانيْ).