اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
كلَّما خاطبنا سيِّدي الوالد المكرم، خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، مليك البلاد المفدى، حفظه الله ورعاه وسدَّد على طريق الخير خطاه، القائد الأعلى لكافة قواتنا العسكرية الباسلة الظافرة دوماً بإذن الله؛ يُذَكِّرنا مؤكداً أنه لا تنمية من دون أمن واستقرار.. تلك التنمية التي تمثل اهتمام مقامه السَّامي الكريم الأول على الدوام، كما أكد أخي صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أمير منطقة المدينة المنورة، رئيس مجلس المنطقة، في كلمته الافتتاحية أثناء ترؤسه الجلسة الثانية للمجلس في دورته الأولى، إذ يقول: (إن الاهتمام الأول لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله، يتركز على مواصلة العمل نحو تحقيق التنمية الشاملة في جميع مناطق المملكة في كافة المجالات).
وهذا قطعاً صحيح في سائر البلدان، كما أنه صحيح أيضاً أن الأمن والاستقرار رهين بقوات مسلحة متعلمة ومدربة ومجهزة بأحدث ما توصل إليه العصر الحديث من معدات، لاسيَّما في هذا الوقت الذي يشهد فيه العالم كل يوم اكتشافاً تقنياً جديداً مذهلاً في جميع المجالات، خاصة في المجال العسكري، في ما يتعلق بعدَّة الحرب من صناعة للسلاح وتطوير وبيع وتحكُّم؛ إذ شهد العالم نقلة نوعية مدهشة من الحرب التقليدية المكلفة بشرياً ومادياً، إلى حرب ذكية خاطفة، تستخدم فيها أسلحة تقنية رقمية، إلكترونية، كيماوية، بيولوجية ونووية، قد يُغْنِي فيها مجرد الضغط على زر واحد فقط عن كتيبة كاملة أو لواء كامل من الجيش بعدَّته وعتاده.
ولهذا السبب أيضاً كانت المؤسسة العسكرية هي الحامي الأول، بعد الله سبحانه وتعالى، لأمن الدولة؛ وكان الجيش هو الضمانة الحقيقية لبقائها، إذ ينحصر أوجب واجباته في وقوفه على أهبة الاستعداد دوماً للصد الفوري لأي محاولة اعتداء، مهما كانت تمثل من تحديات، وتطلَّب إحباطها من تضحيات جسيمة.
ولهذا السبب أيضاً (تحقيق الأمن والاستقرار)، وبالتالي تنمية البلاد وتحقيق رفاهية العباد، تأسست هذه الدولة السعودية الطيبة المباركة منذ بزوغ فجرها الأول حتى اليوم، وستظل كذلك إلى الأبد إن شاء الله، تذود عن حياض الأرض المقدسة بيد، فتوفر الأمن والاستقرار لمواطنيها الكرام، وتدعمهم بكل ما يحتاجون إليه من إمكانات ومتطلبات باليد الأخرى، لتحقيق ما تنشده لهم قيادتهم الرشيدة من تنمية وازدهار ورفاهية وخير لكل البشرية في مشارق الأرض ومغاربها؛ فهي دولة رسالة خالدة، غايتها تحقيق الاستخلاف في الأرض وتجسيده في أسمى معانيه وأروعها.
ولهذا أيضاً اهتمت الدولة رعاها الله، منذ عهد المؤسس الباني والد الجميع الملك عبد العزيز آل سعود، طيَّب الله ثراه، بتأسيس جيش متعلم مدرَّب قوي بالله سبحانه وتعالى، ثم بعقيدته القتالية الإيمانية التي تدفعه لطلب الشهادة دفاعاً عن الحرمين الشريفين والبقاع الطاهرة، وعن الأرض والعرض والحرمات والأهل والعشيرة.
وعلى الدَّرب نفسه سار قادتنا الكرام الأماجد، حتى أصبحنا في هذا العهد الزاهر نمتلك بفضل الله وتوفيقه، أحد أفضل الجيوش في المنطقة، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق من حيث العدَّة والعتاد والأفراد، إذ انتقل جيشنا من الهجانة في بداية تأسيس دولتنا الفتية، إلى جيش علمي حديث بكل ما تحمل الكلمة من معنىً في كافة تشكيلاته الجوية والبحرية والأرضية؛ فأصبح يشارك في أصعب المناورات العسكرية مع أحدث الجيوش وأقواها وأعرقها في كل بلاد الدنيا، بكفاءة منقطعة النظير، تؤكد جهد القيادة وقدرة الإنسان العربي السعودي على البذل والعطاء عندما تُهَيَّأ له الظروف الملائمة التي تمكنه من أداء واجبه والتزامه بعقيدته واستعداده للموت دون رايته.
وقطعاً يدرك اليوم كل مراقب منصف، حتى إن كان بعيداً عن المجال العسكري، هذا الدور العظيم الذي تضطلع به القوات المسلحة العربية السعودية الباسلة في حفظ الأمن الوطني. وكما يقال: رُبَّ ضارة نافعة، فقد كشفت عاصفة حزمنا الماضية وعزمنا الأكيد للعالم أجمع، سرَّ قوة الجيش العربي السعودي وقدرته على العمل في كل الظروف، بل تفوُّقه وتقدُّم تجهيزاته، فضلاً عن شجاعة أفراده وامتلاكهم ناصية العِلْم العسكري الحديث؛ فقد رأيناهم يحملون جرحاهم وشهداءهم الأبرار على أكتافهم لإخلائهم من خلف حدود العدو في ساحات النزال، وسط زخَّات الرصاص المنهمر عليهم كالسيل الهادر من كل جانب.. فها هم أفراده الأُسُود الشجعان ينافحون اليوم بكل شراسة لأربع سنوات متتالية، لا أقول ضد ميليشيا الحوثي في اليمن كما يحلو للمخذلين الانهزاميين تصوير الأمر بهذه البساطة للتشكيك في قدرة جيشنا، بل ضد إيران لأنها هي المحرض والدافع لكل هذا الخراب والدمار، فهي التي تموِّل هؤلاء السُّذَّج بكل ما يحتاجون إليه من عتاد، بل تمدهم حتى بالكوادر البشرية على أعلى المستويات. وندرك كلنا قدرة إيران في المجال العسكري؛ وإلاَّ فكيف تستطيع مجموعة انقلابية جاهلة بنصف عقل وربع وعي أن تقاتل طيلة هذه المدة، إن لم تجد دعماً حقيقياً من إيران دولة الشيطان الأكبر، التي تسعى جاهدة لاستغلال هؤلاء الحوثيين المغفلين المغيبين لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، مدفوعة بحلم إمبراطورية فارس الغابرة. لكن هيهات.. هيهات.
ومع عظمة هذا المجهود الاستثنائي الذي يبذله أفراد قواتنا المسلحة الباسلة بسخاء منقطع النظير، مدعومة بقواتنا العسكرية من كافة التشكيلات النظامية؛ إلا أننا لا نستطيع اختزال دورها في حماية الأمن الوطني في معركة عاصفة الحزم وإعادة الأمل لليمن الجريح. فالكل يذكر دورها في دعم المجهود الحربي العراقي ضد دولة الملالي الخمينية أثناء الحرب العراقية - الإيرانية لثماني سنوات متصلة، ثم جهدها المتميز في حرب تحرير الكويت من مخالب من كنَّا نحسبه يوماً ما حامي بوابة العرب الشرقية. ليس هذا فحسب، بل سبق أن قاتلت قواتنا المسلحة العربية السعودية بجسارة وشجاعة وبسالة إلى جانب الإخوة العرب في حرب فلسطين عام 1368هـ/1948م؛ وما تزال بعض شوارع فلسطين تحمل أسماء بعض أولئك المقاتلين السعوديين البواسل، الذين روت دماؤهم الزكية أرضها الطاهرة، شاهدة على شجاعة المقاتل السعودي ودفاعه عن حياض العرب والمسلمين، قبل أن يكون مدافعاً عن بعده الإستراتيجي لحماية أمنه الوطني. ومع هذا كله، تظهر اليوم أصوات منكرة تشكك في موقفنا من القضية الفلسطينية وتتهمنا زوراً بالتخلي عنها، بل تذهب تلك الأصوات المغرضة أبعد من هذا، فتتهمنا باللهث خلف العدو الصهيوني من أجل التَّطبيع معه؛ وما عَلِمَ أولئك المأجورين أن التَّطبيع في العرف السياسي يكون بين دولتين بينهما حدود مشتركة، تحتل إحداهما جزءًا من أراضي الأخرى؛ ثم إنه ثمَّة دول عربية يرفرف علم الدولة الصهيونية في عواصمها، وأخرى تستقبل أعلى مسؤولين صهاينة في مطاراتها نهاراً جهاراً، من دون أن نسمع تلك الأصوات تلومهم حتى إن كان على استحياء؛ عِلْمَاً أننا نحن السعوديين أكثر الداعمين الحقيقيين للقضية الفلسطينية، ليس خوفاً مما يُشَاع ضدَّنا في قنوات الفتنة وإعلامها الرَّخيص؛ لكنه التزام أخلاقي تمليه علينا رسالتنا السَّامية العظيمة قبل أن يمليه علينا اعتدادنا بانتمائنا العربي، وسنبقى كذلك إلى أن تعود فلسطين عربية أبيَّة لأهلها الذين اُقْتلعوا منها عنوة. ومع هذا، إن نحن أردنا تطبيعاً مع إسرائيل أو غيرها، فلن نستأذن أحداً، إذ لدينا من الشجاعة ما يكفي ليجعلنا نسير بثبات ضدَّ رغبة العالم كله.
وبالطبع، لا يمكننا أن نغفل أيضاً دور القوات العربية السعودية المسلحة الباسلة في دعم القوات العسكرية النظامية الأخرى من قوات أمنية وحرس حدود وغيرها في حالات الطوارئ لحفظ الأمن الوطني الداخلي؛ إذ تقف على أهبة الاستعداد على الدوام، استجابة لنداء الوطن حيثما كان وكيفما كان.
وصحيح أن الواجب الأساسي لقواتنا المسلحة هو حماية استقلال البلاد وتوفير أمنها واستقرارها والدفاع عن سيادتها ضد أي مهدد خارجي أو داخلي مهما كان، إضافة لدورها الرائد في حفظ الأمن الداخلي كما تقدَّم عند الضرورة؛ إلاَّ أن دورها تعدَّى هذا بكثير جداً ليشمل الإسهام في التنمية البشرية، الاقتصادية، الصناعية، الاجتماعية والتقنية وغيرها من أوجه العمل التنموي الوطني المشترك من خلال المشاركة في الأبحاث العلمية والتعليم والتدريب، فأخذت بنصيب وافر من التطور المذهل الذي حدث اليوم في مجال الدراسات والأبحاث العسكرية لصالح الصناعات العسكرية والصناعات المدنية الثقيلة التي تعمل لصالح الجيش والدولة، وتمثل بالتالي رافداً مهماً لمنظومة الاقتصاد الوطني.
ولم يكن ما تضطلع به من واجب عظيم في الدفاع عن أمن الوطن واستقراره ليشغلها عن تطوير قدراتها ومواكبة العالم في التوجه للنظام الدفاعي الجديد الذي يعتمد الفضاء قاعدة أساسية في عمله، تقلب مفاهيم الإستراتيجية النووية الحالية، إذ تتصدى الأسلحة التقنية الحديثة للصواريخ والأسلحة النووية بدقة فائقة، مستفيدة مما توفره الدولة من إمكانات هائلة في هذا المجال، لاسيَّما بعد إطلاق بلادنا لقمرين اصطناعيين، حملت القطعة الأخيرة من أولهما (SGS - 1) توقيع أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع (فوق هام السحب)، الذي يدعم القوات المسلحة ويشرف على عملها تنفيذاً لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود القائد الأعلى لكافة القوات العسكرية؛ ليس هذا فحسب، بل سبق أن شارك أخي صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للفضاء، في إطلاق القمر عربسات - 2، الذي أُطْلِق في السابع عشر من يونيو عام 1985م، فكان بذلك أول رائد فضاء عربي مسلم.
وهكذا نجد أن القوات المسلحة العربية السعودية قد تحوَّلت اليوم إلى مؤسسة شاملة، انبرت لممارسة دورها بقوة وقدرة وكفاءة وعِلْمٍ وخبرة في إطار تنفيذ رؤيتنا الذكية الطموحة (2030)، التي تهدف لتحويل بلادنا إلى قاعدة راسخة للصناعات الوطنية والخدمات اللوجستية.
فكافأتها الدولة وأولتها ما تستحق من رعاية واهتمام، لاسيَّما من اُسْتُشْهِد من أفرادها، من خلال حزمة متكاملة من المكافآت التي شملت:
1- ترقية الشهيد إلى الرتبة التي تلي رتبته، وصرف أعلى راتب يتناسب مع الرتبة لأسرته.
2- تعيين أحد أبناء الشهداء بوظيفة والده، وتقديم منحة عاجلة لذويه بمبلغ مليون ريال.
3- توفير سكن مناسب لأسرة الشهيد في المنطقة التي ترغب فيها بمبلغ نصف مليون ريال.
4- تأمين دراسة أبناء الشهيد، وابتعاثهم على حساب الدولة.
5- تأمين سيارة لأسرة الشهيد وخادمة وسائق، حسب حاجتها.
6- صرف مرتب شهري لوالد الشهيد، ولوالدته بمبلغ ثلاثة آلاف ريال، إذا كان معيلاً لهم.
7- علاج أبناء الشهيد ووالديه وزوجاته داخل المملكة وخارجها على حساب الدولة.
8- منح شهيد الواجب وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الثالثة.
9- حصر ديون الشهيد وتسديدها، بما لا يتجاوز نصف مليون ريال.
وحقَّاً، كم كنت أود أن يتسع المجال هنا للحديث بتفاصيل أكثر عن هذه المؤسسة العسكرية الحيوية المهمة العريقة، بل أهم مؤسسات الدولة على الإطلاق، خاصة أنني تشرَّفت بالخدمة فيها، ولهذا أعرف كم هي مهمة، وكم هي تبذل من جهد وتضحيات ونكران ذات في الدفاع عن العقيدة والمليك والوطن، خدمة لرسالة بلادنا السَّامية العظيمة التي شرَّفنا بها خالقنا عزَّ وجلَّ، ولهذا مهما نقدم لأفرادها من مكافآت وشكر وعرفان وامتنان، يظل قليلاً في حقهم علينا، غير أن عزاءنا أن أولئك الأسود الأشاوس لا يضطلعون بهذا العمل العظيم انتظاراً لمكافأة، بل يرونه واجباً مقدساً يستمتعون بالتضحية بالروح من أجل أدائه على أفضل وجه. ومع هذا، لا يفوتني هنا أن أتقدم بجزيل الشكر والتقدير لقيادتنا الرشيدة التي رعت فأوفت، والحق يقال: لا أعرف دولة تحرص على رعاية أبطالها كما تفعل قيادتنا هنا في أرض الحرمين الشريفين.
وأكتفي في الختام بتذكير جنودنا البواسل برسالة الفخر والاعتزاز التي وجهها لهم سيِّدي الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، القائد الأعلى لكافة قواتنا العسكرية الباسلة، إذ يقول مخاطباً إيَّاهم: (وطنكم يُقَدِّر ما تقومون به من أعمال جليلة، وتضحيات كبيرة في سبيل الذَّود عنه وحماية ثغوره، دفاعاً عن ديننا ووطننا ومقدراتنا)؛ إضافة لرسالة أخي ولي العهد وزير الدفاع، حارس العرين الأمين، الأمير محمد بن سلمان لمنسوبي وزارته الأشاوس، إذ يقول مثمِّناً تضحياتهم: (التَّضحيات التي قدَّمها أبطال قواتنا العسكرية، محل فخر الجميع واعتزازه)؛ حسبما جاء في جريدة الجزيرة، الجمعة الثالث من جمادى الآخرة 1440هـ، الموافق الثامن من فبراير 2019م، العدد 16934، السنة 59، ص 2.
وهي على كل حال، رسالة فخر واعتزاز استحقَّها أُسُودُ عريننا الأشاوس الذين ينافحون عنَّا بيد، ويتشرَّفون بالإسهام معنا في تنمية بلادنا وتعميرها باليد الأخرى، بكل جدارة واقتدار.. مقرونة بصادق عرفان الشعب السعودي وعظيم امتنانه لحسن صنيعهم.