د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** ماذا حمل صوتُك الأول؟ وهل تذكر رسالتك الأولى؟ وما هو الخط الواصل بين الصوت والكتابة أو الفاصل بينهما؟ وما الفارق بين الصدى والمدى؟ وكم هم الذين نفتقد حضور كلماتهم مقروءةً أو مسموعة؟ وما الذي نصنعه بشأن غيابهم أو صنعناه زمن وجودهم؟
** استفهاماتٌ تتجهُ نحو المساحات التائهة في أذهاننا سعيًا إلى ضبطِ مواقعها وإيقاعاتها؛ فالصوتُ الأولُ هو الحلم المهم، والرسالة الأولى هي الخطوة الأهم، ونحن بحاجةٍ إلى التحرر من التصاق ذواتنا بنا كي يكون الصوت مُعبرًا ومَعبرًا والكلماتُ مستقلةً مستدلة، ودون هذا سيبقى النصُّ، أيُّ نص، أسيرًا لصاحبه يرتحل معه حيثما حلّ وأينما ارتحل.
** ذاك جانب مهم في حكاية « الثابت والمتحول» - بعيدًا عن صخب أدونيس وصحبه - لنبقى مع «الصوت والصورة» بوصفهما المنفصل حين لا يعنينا ما يحيط بهما من إسارٍ أو مدارٍ فيتنفسان من غير أن يتكئا على صاحبهما سواءٌ أكان ذلك صوتَه الأول أم الأطول وصورتَه الأثيرة أم الأخيرة.
** هنا نبلغ محور الموضوع؛ فماهي الثقافة المُكوِّنة حين يُراد الحكمُ لنا أو لها بعد أن ننفصل عن كل الإضافات الملحقة بنا والإضاءات التي رسمت دروبنا؟ وماذا عنا حين ينأى الصوتُ والصورةُ والكلمةُ والرسالة فنبدو وحيدين إلا من وثيقةٍ تحمل أسماءنا المجردة لا وسومنا المتعددة؟
** قد نؤمنُ أن مسافات الركض الطويلة لم تتجاوز بنا أسفل أقدامنا» المتورمة» فنسترجع ما قبل الصوت الأول والرسالة الأولى وما بعد الصوت الأخير والرسالة الأخيرة، ونكتشف - يا للدهشة البليدة - أننا « لم نكن شيئًا مذكورًا» وما نزال، ولا عزاء لمن وهم فأوهم، ومن ضلَّ فأضلَّ نفسه وأهان دَرسه وطِرسه.
** يتقاطع هذا الهاجس مع «خطاب التناهي» -كما تتبناه بعض المدارس الفلسفية - إذ ينتهي الإنسان وتبقى الإنسانية، ولكن: هل يمكن أن يكون الصمتُ حلًا؟ وهل ينجو الصامتون؟ ولأنه لا صمت حتى دون صوت، فإن الإجابة ستقضي أنْ لن ينجوَ أحد.
** وما دمنا أمام منطق التناهي فإن مقابلَه «غيرَ المتناهي» سيُوقفنا عند عوامل «المشيئة المحددة والأفكار المجددة والإنسان المقيد والآلة المنطلقة»، وفي مسافاتها تتولدُ الحساباتُ وتتخلق المحاسبة وتؤوبُ الذاتُ إلى ذاتها موقنةً أن تعادلية الصوت والصمت متزنان في كفتين دون فوارق، إلا أن التأريخَ سيرحم الصامتين لجهله بهم ويُعرِّي الصوتيين لاستعراضهم أمامه.
** وفي المؤدى؛ فالحياة تشبه نصًا شاردًا لا يُعرف صاحبُه ليجيءُ الحكم عليه محايدًا لا يعنيه من قال ولماذا قال، ولا ينفعه تبريرٌ ولا تنكير إذ «قد قيل ما قيل..» واكتمل التحليل والتعليل، وفيه توجيهٌ للجيل الجديد أن يتفحص صوته قبل إطلاقه ورسالته قبل بعثها وموقفه قبل توقفه كي لا يحملَ وزرَ بيانه ببنانه، وحضوره بزُوره، وغيابِه باكتئابه، ومن شاء شواهد فليفتش في أوراق الزمن.
** البدءُ مختتم.