عبدالعزيز السماري
لم تخرج الليبرالية من عباءة السلطة، ولم تكن في يوم من الأيام نظاماً شمولياًَ، لكنها جاءت نتيجة تطور العقل البشري في مواجهة أزماته، فالخيار كان إما الاستمرار في الحروب الأهلية والصراع من أجل الوصول إلى السلطة، وذلك لفرض الفكرة المصاحبة للحرب، أو الاستسلام لواقع تحكمه حرية الفرد وسلطة القانون، وبالتالي نزع المبادرات السياسية من الطرح الأيدولوجي المباشر، ومن التخوين والتكفير وغيرها من أدوات البشر الإقصائية..
كانت في الغرب خياراً براغماتياً لفلك الاشتباك، والاحتكام إلى المجتمع، مع الحفاظ على حرية الفرد والسوق، واحترامهما من خلال فلسفة القانون، ولم تكن في حقيقة الأمر الحل المثالي عند كثير من البشر، فكل إنسان يملك رؤية محددة لماهية الأخلاق والقيم في المجتمع، والإشكالية أن تعدد هذه الرؤى ومحاولة فرضها يدخل المجتمع في صراع مرير..
كان ذلك معضلة مزمنة عبر التاريخ، فالمجتمع الذي يتألف من مجموعة من الأشخاص، لكل منهم أهدافه ومصالحه ومفاهيمه الخاصة، ويتم ترتيبها بشكل أفضل عندما يكون المجتمع محكوماً بمبادئ لا تفترض في حد ذاتها أي مفهوم ضيق للمصالح،.. ومن خلال الحل الليبرالي البراغماتي لهذا الصراع، يتطلب من الجميع احترام شخصيات الآخرين، والامتناع تماماً عن فرض رؤيتهم الأحادية للحياة على الآخرين.
ومنها اكتسبت الليبرالية شهرتها، فهذه الخلاصة الإنسانية تم صياغتها اضطراراً لفك الاشتباكات الأيدولوجية والفئوية، ولتقديم حلول من أجل السلم الاجتماعي، قيمتها الأساسية حماية وتعزيز حرية الفرد، ويجادل معظم منظري السياسة بأن الليبرالية قسمت إلى مسارين مستقلين: الليبرالية الكلاسيكية، التي تحتفل بالسوق الحرة، والليبرالية اليسارية التي تحتفل بالحقوق المدنية، لكنهما حسب فلاسفتها وحدة كامنة.
تقوم الليبرالية على حق التعبير عن الذات الفردية، وينظر كل من الليبراليين الكلاسيكيين واليساريين إلى البشر كأفراد حائزين للحقوق، ويجب أن يعطوا أكبر مساحة ممكنة لتحقيق أحلامهم، ويكون هدف الحكومة هو ضمان الحقوق، وتقوم شرعية النظام على أساس الإيمان المشترك «بالعقد الاجتماعي» بين البالغين المتراضين، لكن هذا ينتج مفارقة، لأن الروح الليبرالية تدمر بشكل ميكانيكي العادات والتقاليد المحلية الموروثة، أحيانًا باسم كفاءة السوق، وأحيانًا باسم الحقوق الفردية..
يعتقد الليبراليون أن دور الحكومة ضروري لحماية الأفراد من التعرض للأذى من قبل الآخرين، لكنهم يدركون أيضًا أن الحكومة نفسها يمكن أن تشكل تهديدًا للحريات الفردية، وهو ما يعني الحاجة إلى قوانين وقضاة وشرطة لتأمين حياة الفرد وحريته، وبالتالي وضع نظام يمنح الحكومة السلطة اللازمة لحماية الحرية الفردية، ويمنع أيضاً من يحكمون من استغلال تلك السلطة للاعتداء على حرية الفرد، وهكذا..
خلاصة الأمر أن الليبرالية ليست خياراً يتم استيراده، لكنها تتحول إلى حاجة واضطرار لفرض التسامح، نتيجة لاستمرار صراع الأفكار الشمولية المزمن حول أحقية السيطرة على المجتمع، فالإنسان مجبول على فرض رأيه على الآخرين، والعصر يعاني من تعدد القراءات الأيدولوجية للحقيقة، وقد تكاثرت وتضاعفت عبر العقود عدد الجماعات والطوائف المتصارعة في المجتمع حول ماهية الحقيقة، ناهيك عن الأفكار اليسارية الشمولية، ولهذه الأسباب وأسباب استمرار الحروب جاءت فكرة الليبرالية لتعلن الهدنة الدائمة حول حق الحرية والاحتكام للقانون عند الخلاف..