د.فوزية أبو خالد
قطرة ثامنة
أعتبر شخصيًا أن من أجمل صور التواشج بين تشكيل منيرة وبين كتابتي كان يوم فاجأتني منيرة برسم قصتي للأطفال «زهرة لا تشبه زهرة». ولم تكن منيرة التي رسمت المرأة السعودية حاملًا بالأشواك والأشواق على غلاف كتاب السروي لعبدالعزيز المشري إلا تلك الزهرة التي لا تشبه زهرة.
لقد قامت منيرة الموصلي قبل ما يزيد على ربع قرن بإهدائي لوحتها الشهيرة «الفراشة التي انهزمت» في نسختها الأصلية الأولى، وقد بقيت تلك اللوحة شاهدًا على هزائمي وانتصاري في تنقلاتي بين كمائن الأمكنة إلى أن صارت اليوم تتصدر غرفة المعيشة بمستقري ما قبل الأخير في بيتي بحي الربيع بالرياض.
أما اللوحة التي ظلت في التقارب والتباعد مع منيرة الموصلي وفي الشد والجذب بين طبيعتنا النارية، موضع تأملي لقدرة الفن على الخلود والصمود في وجه أعمارنا الزائلة وأمزجتنا المتقلبة وتحولاتنا الفكرية والوجدانية فقد كانت تلك اللوحة التي رسمت منيرة فيها منيرة، وهي لوحة صورتها الشخصية في «بورتريه ذاتي»، «الفائزة في بنالي الدومنيكان مطلع التسعينات الميلادية على ما أذكر».
قطرة تاسعة
على مدى ما يزيد عن نصف قرن أغنت منيرة الموصلي، بنت مكة المكرمة وبنت القضايا العادلة وبنت الجزيرة العربية وبنت الريشة والألوان، بلادنا بالعديد من معارض الفن التشكيلي في الداخل والخارج المتنوعة في عناوينها ومواضيعها، كما أغنت حركة الفن التشكيلي الحديث بالمملكة العربية السعودية وبالوطن العربي بالعديد العديد مما قد يصل «لمئات اللوحات» من الأعمال الفنية المجددة والمثيرة والأثيرة على العيون المبصرة والحفية بالإنتاج التشكيلي وعلى كل متذوق ومتابع لهذا النوع من الإبداع سواء أتفق مع مدرستها الفنية أو اختلف.
ومن تلك المعارض التي استدعي أسماءها من الذاكرة (ولا بد أنها موثقة في أرشيفها الفني والحياتي إذ كانت منيرة الموصلي سيدة في توثيق شغلها وإبداعاتها)، «معرض استشراف» الذي إقامته في المنطقة الشرقية/ بقاعة تشكيلية داخل مجمع أرامكو إبان العقد الأول من عملها الثقافي والإعلامي والفني بشركة النفط وهو عقد الثمانينات، «معرض بصمة» في المنطقة الغربية بقاعة روشان بجدة، «معرض جسور ثقافية» أقيم بالحي الدبلوماسي بالسفارة الفرنسية بالرياض ما قبل منتصف التسعينات بقليل، ومعارض أخرى عدة داخل المملكة وخارجها لم أتابعها عن كثب لبعد الشقة بيننا وقتها، وكان منها أيضاً معرضها بداية العقد الأول من الألفية الثالثة الذي كان قائمًا على شراكة فريدة بين الفن الحديث بمدارسه التجريدية والرمزية التي كانت تميل إليها معظم أعمال الفنانة منيرة الموصلي وبين الكلمة المنحوتة من حفريات التاريخ متمثلة في القراءة التي قدمتها د. هتون الفاسي لموضوع لوحات ذلك المعرض عن أجياد مكة المكرمة باعتبار تلك الأرض الطيبة الخصيبة رغم وقوعها في وادٍ ليس ذي زرع تشكل جذرًا وجدانيًا ووطنيًا لمنيرة كفنانة تشكيلة ولهتون كمؤرخة وكاتبة، حيث ولدت كل منهما على تلك البطاح الطاهرة. وقد تم تدوين اللوحات التشكيلية والقراءة التاريخية لذلك المعرض في كتاب أي في جمال مؤخاة أنواع المعرفة الإنسانية كالتشكيل والكتابة، وكان الكتاب -إن لم تخني الذاكرة- بعنوان «أجياد تحاور هجر».
كان من معارضها أيضاً في منطقة الخليج «معرض الواسطي وأنا»، وبالرغم من أنني لم أشهده فقد كتب عنه كتابات نقدية جميلة ومنها كتابة الفنانة مها السنان في قراءتها لبراعة منيرة الموصلي في لوحات هذا المعرض في التواصل مع التراث والبيئة رغم نزعتها الملتزمة بالفن الحديث. والحقيقة أنه طالما لفتتني فتنة اشتقاقاتها للألوان وتعشيق لوحاتها بخامات البيئة الطبيعية وخاصة بيئة المملكة والجزيرة العربية عموماً بألوانها غير المحافظة من شهقة ضحى الشمس في الصحراء لألوان لوعة الوداع في أطياف الشفق المشحونة بشجن المغيب وقت الغروب، بالضبط مثل ما فعل رحيل منيرة نفسها في نفوس الكثيرات والكثيرين عبر الوطن العربي. وربما لم يكن آخر معارض منيرة ولكنه المعرض الذي لا بد أن منيرة أبت أن تطوي أشرعة رحلتها قبل أن تقيمه على أرض الوطن بمدينة الرياض وهو معرض «أطفال غزة». ففيه تعبير عن ذلك الخيط المشيمي الذي ربط بين مشاعر منيرة الإنسانة والفنانة وبين فلسطين كقضية شعب وكقضية حق. وقد كانت لوحات ذلك المعرض عن أطفال فلسطين وبريشة امرأة سعودية، وستظل لحين تحرير فلسطين الخيط الرهيف والقوي المشترك بين كل أحرار الوطن العربي والعالم الإسلامي وكل صاحبة وصاحب ضمير أينما كان موقعهم من الكرة الأرضية.