د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يتردد البعض في فهم وقبول أهمية الإصلاحات التي قامت بها الدولة أخيراً على المستوى الاجتماعي فيما يتعلق بتمكين المرأة أو الترفيه، وهي إصلاحات ستخلصنا تدريجيًا من ازدواجية معيقة تحكمت فينا لعقود. ويمكننا القول إن غالبية مجتمعنا كانت تعيش حالة ازدواجية فكرية واجتماعية في مجال أو آخر من حياتها، تعتقد في أمر وتمارس ما يخالفه، تمارس سلوكًا وهي جازمة بشكل قاطع بخطئه. كثير منا مثلاً درس في الخارج، أو عاش في الخارج، أو سافر للخارج لمرات عدة. وعندما نكون في الخارج نعيش وفق قناعات غير تلك التي نعيشها في مجتمعنا الذي فرض علينا حالة من الاتساق الاجتماعي الصارمة، إما بسبب بعض المعتقدات المبالغ فيها، أو بعض العادات والتقاليد الذي يقدسها البعض رغم مخالفتها لنواميس العقل والحكمة.
عشنا ردحًا من الزمن نقدس الماضي ونتشاءم من المستقبل، بعضنا يرى ما نقل له على أنه صحيح لا يدخله باطل لمجرد أنه ورد في كتاب من الكتب المتوارثة حتى ولو خالف مبادئ العلم ونواميس الطبيعة التي خلقها الخالق وأمرنا بالتفكر فيها. ما زال البعض منا مثلاً يعتقد اعتقادًا راسخًا أن جناحي الذباب أحدهم داء والآخر دواء، مع أن العلم والبديهة تثبت أنهما يحملان الداء ذاته. كان يمكن أن نتخذ العلم والبرهان العلمي أساسًا نراجع بموجبه ما وردنا عبر تاريخ طويل من التوارث، اختار البعض منا تكذيب العلم وتصديق بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة. وعرضت قناة روتانا قبل أيام مقابلة مع العالمة الباحثة خولة الكريع توقعنا أن تضيء ما استجد في أبحاث السرطان وطرق علاجه، غير أنها استهلكت في أسئلة عن ماء زمزم وبول الإبل كعلاج للسرطان. ولا بأس في أن يتبارك الناس في ماء زمزم ويعتقدون فيه ولكن العلم الحديث وأبحاث عديدة نفت حقيقة أن ماء زمزم يختلف كثيراً عن غيره في شأن العلاج من السرطان، مثلما نفت الأبحاث العلمية في الهند قدرة ماء نهر الغانجي على شفاء الأمراض بالرغم من اعتقاد الملايين بذلك. حطمنا كل الشواهد والأضرحة حتى لا يعتقد الناس فيها ويعبدونها في ممارسات شركية، ولكن العقل المتردد المزدوج بحث عن أضرحة من نوع آخر كبول الإبل، وجناح الذباب، وماء زمزم ليعتقد فيها. ومما يؤسف له أنه يخرج علينا بين الفينة والأخرى من يمارس الشعوذة العلمية لينشر أكاذيب في شكل حقائق علمية لأهداف شعبوية يتداولها الناس دون تمحيص لها على أنها حقائق.
العقل المدمن على الركود من الصعب أن يتغير، وعشنا سنوات ركودًا ارتفع فيها سقف التذنيب وتشكيك الناس في دينهم وفي سلوكهم حدًا جعل البعض يصاب بالوساوس النفسية. فترة ارتفعت فيها أسهم من يبالغ في تشيك الناس في عقولها بأحاديث ضعيفة وربما منتحلة ليقدم برهانًا لا يجاريه فيه أحد غيرته هو فقط على معتقدات المجتمع ومحارمه، وكأن الآخرين لا غيرة لديهم عليها، فسرنا شيئاً فشيئًا في طريق تناقض وتصادم مع بقية العالم. وما زال البعض منا، بعد حركة الإصلاح الأخيرة التي مكنت المرأة من حقوق أساسية لها، وجعلت الجميع مسؤولاً عن أخلاقه أمام القانون ولا وصاية لمواطن على آخر، لم يستوعب الوضع الجديد، ولا يرغب في الخروج من قفص الركود الفكري والاجتماعي مع انفتاح الباب على مصراعيه أمامه. فلا شك أننا نتغير، ونتغير نحو الأفضل، ونتجه لقفل فجوة الازدواجية بين ما نعتقده وما نعيشه، تلك الازدواجية التي تسببت في اغتراب البعض منا، وفي الاكتئاب الاجتماعي لدى البعض الآخر.
وقد رسم أفلاطون سيناريو قصة يوضح فيها إدمان المجتمع على رؤية معينة حتى ولو كانت خاطئة. قصة أفراد ربطوا بسلاسل في كهف لا يرون فيه إلا أظلة ما يتحرك خارج الكهف، وكانوا يؤمنون بأن الظلال هو الحقيقة. انفك رباط أحدهم وخرج لخارج الكهف وشاهد العالم على حقيقته، وعاد ليخبر أصدقاءه فكذبوه، وأقنعوه بأن ما شاهده هو الخطأ. عاد ليشاهد الأظلة فلم يستطع لأن خروجه للشمس فجأة في الخارج دمر بصره.
قد نعيش لردح من الزمن بمعتقدات قوية، ولكن قوتها وديمومتها ليست برهانًا على صحتها. ولنا في كثير من مجتمعات العالم عبرةً، مجتمعات قاومت التغير بكل ما أوتيت من قوة، ولكنها في المحصلة النهائية تغيرت. ولا أعتقد أن من يتغير يمكن أن يعود للوراء، ولذا فأتمنى أن نعمل جميعًا للتغيير بطريقة هادئة سلسة، وأن نقبل بالتعايش مع الاختلاف، كما عاشت جميع الشعوب الأخرى.